الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارا لله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين .

[ ص: 198 ] هذا خطاب آخر للمؤمنين تكملة لما تضمنه الخطاب بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة إلى قوله وتجاهدون في سبيل الله الآية الذي هو المقصود من ذلك الخطاب ، فجاء هذا الخطاب الثاني تذكيرا بأسوة عظيمة من أحوال المخلصين من المؤمنين السابقين وهم أصحاب عيسى عليه السلام مع قلة عددهم وضعفهم .

فأمر الله المؤمنين بنصر الدين وهو نصر غير النصر الذي بالجهاد لأن ذلك تقدم التحريض عليه في قوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم الآية ووعدهم عليه بأن ينصرهم الله ، فهذا النصر المأمور به هنا نصر دين الله الذي آمنوا به بأن يبثوه ويثبتوا على الأخذ به دون اكتراث بما يلاقونه من أذى من المشركين وأهل الكتاب ، قال تعالى لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور . وهذا هو الذي شبه بنصر الحواريين دين الله الذي جاء به عيسى عليه السلام ، فإن عيسى لم يجاهد من عاندوه ، ولا كان الحواريون ممن [ ص: 199 ] جاهدوا ولكنه صبر وصبروا حتى أظهر الله دين النصرانية وانتشر في الأرض ثم دب إليه التغيير حتى جاء الإسلام فنسخه من أصله .

والأنصار : جمع نصير ، وهو الناصر الشديد النصر .

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ( كونوا أنصارا لله ) بتنوين ( أنصارا ) وقرن اسم الجلالة باللام الجارة فيكون ( أنصارا ) مرادا به دلالة اسم الفاعل المفيد للإحداث ، أي محدثين النصر ، واللام للأجل ، أي لأجل الله ، أي ناصرين له كما قال تعالى فلا ناصر لهم .

وقرأه الباقون بإضافة ( أنصار ) إلى اسم الجلالة بدون لام على اعتبار أنصار كاللقب على نحو قوله من أنصاري .

والتشبيه بدعوة عيسى ابن مريم للحواريين وجواب الحواريين تشبيه تمثيل ، أي كونوا عندما يدعوكم محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى نصر الله كحالة قول عيسى ابن مريم للحواريين واستجابتهم له .

[ ص: 200 ] والتشبيه لقصد التنظير والتأسي فقد صدق الحواريون وعدهم وثبتوا على الدين ولم تزعزعهم الفتن والتعذيب .

و ما مصدرية ، أي كقول عيسى وقول الحواريين . وفيه حذف مضاف تقديره : لكون قول عيسى وقول الحواريين . فالتشبيه بمجموع الأمرين قول عيسى وجواب الحواريين لأن جواب الحواريين بمنزلة الكلام المفرع على دعوة عيسى وإنما تحذف الفاء في مثله من المقاولات والمحاورات للاختصار ، كما تقدم في قوله تعالى قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها في سورة البقرة .

وقول عيسى من أنصاري إلى الله استفهام لاختبار انتدابهم إلى نصر دين الله معه نظير قول طرفة :

إذا القوم قالوا من فتى خلت إنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد

وإضافة أنصار إلى ياء المتكلم وهو عيسى باعتبارهم أنصار دعوته .

و إلى الله متعلق ب أنصاري . ومعنى ( إلى ) الانتهاء المجازي ، أي [ ص: 201 ] متوجهين إلى الله ، شبه دعاؤهم إلى الدين وتعليمهم الناس ما يرضاه الله لهم بسعي ساعين إلى الله لينصروه كما يسعى المستنجد بهم إلى مكان مستنجدهم لينصروه على من غلبه .

ففي حرف ( إلى ) استعارة تبعية ، ولذلك كان الجواب المحكي عن الحواريين مطابقا للاستفهام إذ قالوا : نحن أنصار الله ، أي نحن ننصر الله على من حاده وشاقه ، أي ننصر دينه .

والحواريون : جمع حواري بفتح الحاء وتخفيف الواو وهي كلمة معربة عن الحبشية ( حواريا ) وهو الصاحب الصفي ، وليست عربية الأصل ولا مشتقة من مادة عربية ، وقد عدها الضحاك في جملة الألفاظ المعربة لكنه قال : إنها نبطية . ومعنى الحواري الغسال ، كذا في الإتقان .

والحواريون : اسم أطلقه القرآن على أصحاب عيسى الاثني عشر ، ولا شك أنه كان معروفا عند نصارى العرب أخذوه من نصارى الحبشة . ولا يعرف هذا الاسم [ ص: 202 ] في الأناجيل .

وقد سمى النبيء - صلى الله عليه وسلم - الزبير بن العوام حواريه على التشبيه بأحد الحواريين فقال : لكل نبي حواري وحواري الزبير . وقد تقدم ذكر الحواريين في قوله تعالى قال الحواريون نحن أنصار الله في سورة آل عمران .

واعلم أن مقالة عيسى عليه السلام المحكية في هذه الآية غير مقالته المحكية في آية آل عمران فإن تلك موجهة إلى جماعة بني إسرائيل الذين أحس منهم الكفر لما دعاهم إلى الإيمان به .

أما مقالته المحكية هنا فهي موجهة للذين آمنوا به طالبا منهم نصرته لقوله تعالى كما قال عيسى ابن مريم للحواريين الآية ، فلذلك تعين اختلاف مقتضى الكلامين المتماثلين . وعلى حسب اختلاف المقامين يجرى اختلاف اعتبار الخصوصيات في الكلامين وإن كانا متشابهين فقد جعلنا هنالك إضافة " أنصار الله " إضافة لفظية وبذلك لم يكن قولهم نحن أنصار الله مفيدا للقصر لانعدام تعريف المسند . فأما هنا فالأظهر أن كلمة " أنصار الله " اعتبرت لقبا للحواريين عرفوا أنفسهم به وخلعوه على أنفسهم فلذلك أرادوا الاستدلال به على أنهم أحق الناس بتحقيق معناه ، ولذلك تكون إضافة أنصار إلى اسم الجلالة هنا إضافة معنوية مفيدة تعريفا فصارت جملة نحن أنصار الله هنا مشتملة على صيغة قصر على خلاف نظيرتها التي في سورة آل عمران .

ففي حكاية جواب الحواريين هنا خصوصية صيغة القصر بتعريف المسند إليه والمسند . وخصوصية التعريف بالإضافة . فكان إيجازا في حكاية جوابهم بأنهم أجابوا بالانتداب إلى نصر الرسول وبجعل أنفسهم محقوقين بهذا النصر لأنهم محضوا أنفسهم لنصر الدين وعرفوا بذلك وبحصر نصر الدين فيهم حصرا يفيد المبالغة في تمحضهم له حتى كأنه لا ناصر للدين غيرهم مع قلتهم وإفادته التعريض بكفر بقية قومهم من بني إسرائيل .

وفرع على قول الحواريين ( نحن أنصار ) الإخبار بأن بني إسرائيل افترقوا طائفتين طائفة آمنت بعيسى وما جاء به ، وطائفة كفرت بذلك وهو التفريع يقتضي كلاما مقدرا وهو فنصروا الله بالدعوة والمصابرة عليها فاستجاب بعض بني [ ص: 203 ] إسرائيل وكفر بعض وإنما استجاب لهم من بني إسرائيل عدد قليل فقد جاء في إنجيل لوقا أن أتباع عيسى كانوا أكثر من سبعين .

والمقصود من قوله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة التوطئة لقوله فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين والتأييد والنصر والتقوية ، أيد الله أهل النصرانية بكثير ممن اتبع النصرانية بدعوة الحواريين وأتباعهم مثل بولس

وإنما قال فأيدنا الذين آمنوا ولم يقل : فأيدناهم لأن التأييد كان لمجموع المؤمنين بعيسى لا لكل فرد منهم إذ قد قتل من أتباعه خلق كثير ومثل بهم وألقوا إلى السباع في المشاهد العامة تفترسهم ، وكان ممن قتل من الحواريين الحواري الأكبر الذي سماه عيسى بطرس ، أي الصخرة في ثباته في الله .

ويزعمون أن جثته في الكنيسة العظمى في رومة المعروفة بكنيسة القديس بطرس والحكم على المجموع في مثل هذا شائع كما تقول : نصر الله المسلمين يوم بدر مع أن منهم من قتل . والمقصود نصر الدين .

والمقصود من هذا الخبر وعد المسلمين الذين أمروا أن يكونوا أنصار الله بأن الله مؤيدهم على عدوهم .

والعدو يطلق على الواحد والجمع ، قال تعالى وهم لكم عدو وتقدم عند قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء في سورة الممتحنة .

والظاهر هو : الغالب ، يقال : ظهر عليه ، أي غلبه ، وظهر به أي غلب بسببه ، أي بإعانته وأصل فعله مشتق من الاسم الجامد . وهو الظهر الذي هو العمود الوسط من جسد الإنسان ، والدواب لأن بالظهر قوة الحيوان . وهذا مثل فعل عضد مشتقا من العضد . و ( أيد ) مشتقا من اليد ومن تصاريفه ظاهر عليه واستظهر وظهير له قال تعالى والملائكة بعد ذلك ظهير . فمعنى ظاهرين أنهم منصورون لأن عاقبة النصر كانت لهم فتمكنوا من الحكم في اليهود الكافرين بعيسى ومزقوهم كل ممزق .

التالي السابق


الخدمات العلمية