الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 317 ] قوله - عز وجل -:

ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون

لما أخبر عنهم - عز وجل - بأنهم كذبوا بكل ما جاءهم من آية؛ تبع ذلك إخبار فيه مبالغة مضمنه أنه لو جاءهم أشنع مما جاء لكذبوا أيضا؛ والمعنى: "ولو نزلنا" بمرأى منهم "عليك كتابا" - أي كلاما مكتوبا - "في قرطاس" - أي في صحيفة؛ ويقال: "قرطاس"؛ بضم القاف - "فلمسوه بأيديهم" - يريد أنهم بالغوا في ميزه وتقليبه - ليرتفع كل ارتياب؛ لعاندوا فيه؛ وتابعوا كفرهم؛ وقالوا: هذا سحر مبين".

ويشبه أن سبب هذه الآية اقتراح عبد الله بن أبي أمية؛ وتعنته؛ إذ قال للنبي - صلى اللـه عليه وسلم -: "لا أؤمن لك حتى تصعد إلى السماء؛ ثم تنزل بكتاب؛ فيه: من رب العزة إلى عبد الله بن أبي أمية؛ يأمرني بتصديقك؛ وما أراني مع هذا كنت أصدقك"؛ ثم أسلم؛ بعد ذلك عبد الله ؛ وقتل شهيدا في الطائف.

وقوله تعالى: وقالوا لولا أنزل عليه ملك ؛ الآية؛ حكاية عمن تشطط من العرب؛ بأن طلب أن ينزل ملك يصدق محمدا في نبوءته؛ ويعلم عن الله - عز وجل - أنه حق؛ فرد الله تعالى عليهم بقوله: ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ؛ وقال مجاهد : معناه: لقامت القيامة.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا ضعيف.

وقال قتادة ؛ والسدي ؛ وابن عباس - رضي الله عنهما -: في الكلام حذف؛ تقديره: "ولو أنزلنا ملكا فكذبوا به؛ لقضي الأمر بعذابهم؛ ولم ينظروا؛ حسبما سلف في كل أمة اقترحت بآية؛ وكذبت بعد أن أظهرت إليها"؛ وهذا قول حسن.

وقالت فرقة: "لقضي الأمر"؛ أي: لماتوا من هول رؤية الملك في صورته؛ ويؤيد هذا التأويل ما بعده من قوله: ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ؛ فإن أهل التأويل مجمعون على أن ذلك لأنهم لم يكونوا يطيقون رؤية الملك في صورته؛ فالأولى في قوله: "لقضي الأمر"؛ أي: لماتوا من هول رؤيته.

و"ينظرون"؛ معناه: يؤخرون؛ و"النظرة": التأخير.

[ ص: 318 ] وقوله - عز وجل -: "ولو جعلناه"؛ الآية؛ المعنى: "إنا لو جعلناه ملكا لجعلناه - ولا بد - في خلق رجل؛ لأنهم لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته"؛ وقاله ابن عباس ؛ ومجاهد ؛ وقتادة ؛ وابن زيد .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ومما يؤيد هذا المعنى الحديث الوارد عن الرجلين اللذين صعدا على الجبل يوم بدر؛ ليريا ما يكون في حرب النبي - عليه الصلاة والسلام - للمشركين؛ فسمعا حس الملائكة؛ وقائلا يقول في السماء: "أقدم حيزوم"؛ فمات أحدهما لهول ذلك؛ فكيف برؤية ملك في خلقته؟ ولا يعارض هذا برؤية النبي - عليه الصلاة والسلام - لجبريل - عليه السلام - وغيره في صورهم؛ لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - أعطي قوة غير هذه كلها - صلى اللـه عليه وسلم.

"وللبسنا"؛ أي: "لخلطنا عليهم ما يخلطون به على أنفسهم؛ وعلى ضعفتهم"؛ أي: لفعلنا لهم في ذلك فعلا ملبسا يطرق لهم إلى أن يلبسوا به؛ وذلك لا يحسن؛ ويحتمل الكلام مقصدا آخر؛ أي: "للبسنا نحن عليهم كما يلبسون هم على ضعفتهم؛ فكنا ننهاهم عن التلبيس؛ ونفعله بهم"؛ ويقال: "لبس الرجل الأمر؛ يلبسه؛ لبسا"؛ إذا خلطه؛ وقرأ ابن محيصن: "ولبسنا"؛ بفتح اللام؛ وشد الباء.

وذكر بعض الناس في هذه الآية أنها نزلت في أهل الكتاب؛ وسياق الكلام ومعانيه يقتضي أنها في كفار العرب.

التالي السابق


الخدمات العلمية