الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2349 [ ص: 37 ] 34 - باب: إذا كسر قصعة أو شيئا لغيره 2481 - حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن سعيد عن حميد، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام فضربت بيدها، فكسرت القصعة، فضمها وجعل فيها الطعام، وقال: " كلوا". وحبس الرسول القصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة وحبس المكسورة. [5225 - فتح: 5 \ 124]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن أبي مريم: أخبرنا يحيى بن أيوب، حدثنا حميد، حدثنا أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث أنس أنه - عليه السلام- كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها، فكسرت القصعة، فضمها وجعل فيها الطعام، وقال: "كلوا". وحبس الرسول القصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة وحبس المكسورة. وقال ابن أبي مريم: أنا يحيى بن أيوب، ثنا حميد، ثنا أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث من أفراده، وفي رواية للترمذي: أهدت بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم طعاما في قصعة، فضربت عائشة القصعة بيدها، فألقت ما فيها، فقال عليه السلام: "طعام بطعام وإناء بإناء"، ثم قال: حسن صحيح، وفي رواية لأبي داود والنسائي بإسناد فيه مقال من حديث عائشة: أن المرسلة صفية، وهو أحد الأقوال في [ ص: 38 ] ذلك. وقيل: زينب بنت جحش، وأنه كان جفنة من حيس. ذكره في "المحلى". وقيل: أم سلمة، حكاهما المحب الطبري في "أحكامه"، وحكى الثاني المنذري.

                                                                                                                                                                                                                              وللترمذي من حديث سويد بن عبد العزيز، عن حميد، عن أنس: استعار النبي صلى الله عليه وسلم قصعة فضاعت فضمنها لهم، ثم قال: حديث غير محفوظ.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حاتم الرازي في "علله": حديث باطل ليس فيه استعارة، وهم فيه سويد، وفي "علله": سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه عمران بن خالد، عن ثابت، عن أنس: كان - عليه السلام- في بيت عائشة ومعه أصحابه، فأرسلت حفصة بقصعة فكسرتها عائشة، فقضى - عليه السلام-: "من كسر شيئا فهو له وعليه مثله"، فقال أبو زرعة: هذا خطأ، رواه حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي المتوكل، أنه - عليه السلام - وهو الصحيح. ولم يقض، أي: فيه بشيء.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: فالحاصل في المرسلة أربعة أقوال، والكاسرة عائشة.

                                                                                                                                                                                                                              واختلف العلماء فيمن استهلك عروضا أو حيوانا; فذهب الكوفيون والشافعي وجماعة -كما قاله ابن بطال- إلى أن عليه مثل ما استهلك.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 39 ] قالوا: ولا يقضى بالقيمة إلا عند عدم المثل، واحتجوا بحديث الباب، ألا ترى أنه - عليه السلام- ضمن القصعة بقصعة، وذهب مالك إلى أن من استهلك شيئا من العروض أو الحيوان، فعليه قيمته يوم استهلاكه والقيمة أعدل في ذلك، واحتج بأنه - عليه السلام- قضى فيمن أعتق شركا له في عبد بقيمة حصة شريكه دون حصته من عبد مثله؛ لأن ضبط المثل بالقيمة أخص منه في الخلقة. والمثل لا يوصل إليه إلا بالاجتهاد كما أن القيمة تدرك بالاجتهاد، وقسمة العدل في الصنعة مثل. وقد ناقض العراقيون في قوله تعالى: فجزاء مثل ما قتل من النعم [المائدة: 95] وقالوا: القيمة مثل في هذا الموضع، واتفق مالك والكوفيون والشافعي وأبو ثور فيمن استهلك ذهبا أو ورقا أو طعاما مكيلا أو موزونا أن عليه مثل ما استهلك في صفته ووزنه وكيله. قال مالك: وفرق بين الذهب والفضة والطعام وبين الحيوان والعروض العمل المعمول عليه. قال ابن المنذر: ولا أعلم في هذه المسألة خلافا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن التين: احتج بهذا الحديث من قال: يقضى في العروض بالأمثال. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، ورواية عن مالك، وعنه: كل ما صنعه الآدميون غرم مثله كالثوب وبناء الحائط والصناعة ونحو ذلك، وكل ما كان من صنع الله كالعبد والدابة، ففيه القيمة، والمشهور من مذهبه أن كل ما ليس بمكيل ولا موزون ففيه القيمة، وما كان مكيلا أو موزونا فيقضى بمثله.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 40 ] والجواب عن حديث الباب: أن البيت الذي كان فيه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته، والظاهر أن ما فيه له، وكذا بيت المهدية، أي: لا على وجه الغرامة، ولو سلم أن القصعتين للمرأتين لم يكن فيه حجة إذا اتفق الجاني والمجني عليه على الرضا بهما، وإنما يجب ما قلناه عن القيمة إذا أباه أحدهما، ويحتمل أن يكون - عليه السلام - رأى ذلك سدادا بينهما فرضيتاه، فالحديث لا يتناول موضع الخلاف، ويحتمل أن يكون أخذ القصعة من بيتها عقوبة، والعقوبة بالأموال كانت مشروعة. وزعم المنذري أن ذلك من باب المعونة والإصلاح دون بت الحكم بوجوب المثل، فإن القصعة والطعام ليس لهما مثل معلوم، وقد أسلفنا هذا.

                                                                                                                                                                                                                              ومن تعدى على قصعة فكسرها، أو ثوبا فقطعه، فإن كان يسيرا أصلحه وغرم ما بين قيمته صحيحا ومرفوا. وإن كان كبيرا، فاختلف قول مالك; فقال مرة: يغرم ما نقصه مثل الأول. وقال أخرى: هو مخير بين أن يضمنه جميع قيمته أو ما نقصت قيمته، ولم يختلف قول مالك إذا أراد ربه أخذه وما نقص له، أن ذلك له. وقال أشهب ومطرف وابن الماجشون: إن قدر على غرامة قيمته، فليس له أخذه وما نقصه.

                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: لما استدل ابن حزم بحديث القصعة، قال: هذا قضاء بالمثل لا بالدراهم، قال: وقد روي عن عثمان بن عفان وابن مسعود أنهما قضيا فيمن استهلك فصلانا بفصلان مثلها، وشبهه داود بجزاء الصيد في العبد العبد، وفي العصفور العصفور.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 41 ] ثانيها: إن قلت: فهلا أدبها ولو بالكلام؟ فالجواب: لعله فهم أن المهدية كانت أرادت بإرسالها ذلك إلى بيتها أذاها والمظاهرة عليها، فلما كسرتها لم يزد على أن قال: "غارت أمكم!" وجمع الطعام بيده، وقال: "قصعة بقصعة" وأما "طعام بطعام" فلم يغرم الطعام; لأنه كان مهدى، فإتلافه قبول له أو في حكمه، وتؤيده رواية أبي داود عن عائشة قالت: ما رأيت صانع طعام مثل صفية، وأنها صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما، فبعثت به فأخذتني أفكل -تعني: رعدة- فكسرت الإناء، فقلت: يا رسول الله، ما كفارة ما صنعت؟ فقال: "إناء مثل إناء وطعام مثل طعام"، وفي إسناده: أفلت بن خليفة، صدوق.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: عند الحنفية إذا تغيرت العين المغصوبة بفعل الغاصب حتى زال اسمها وعظم منافعها، زال ملك المغصوب عنها وملكها الغاصب وضمنها، ولم يجز له الانتفاع بها حتى يؤدي بدلها.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: (القصعة) بفتح القاف وسكون الصاد؛ إناء من عود. قال ابن سيده: هي صحفة تشبع عشرة، جمعها: قصاع، وقصع، وكان بعض شيوخنا يقول: لا تكسر القصعة ولا تفتح الجراب.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية