الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال ياموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال ياموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن عند موت ذلك الرجل من الوكز أصبح موسى عليه السلام من غد ذلك اليوم خائفا من أن يظهر أنه هو القاتل فيطلب به ، وخرج على استتار ( فإذا الذي استنصره ) وهو الإسرائيلي ( بالأمس يستصرخه ) يطلب نصرته بصياح وصراخ ، قال له موسى : ( إنك لغوي مبين ) قال أهل اللغة : الغوي يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعل ؛ أي إنك لمغو لقومي ، فإني وقعت بالأمس فيما وقعت فيه بسببك ، ويجوز أن يكون بمعنى الغاوي . واحتج به من قدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام ، فقال : كيف يجوز لموسى عليه السلام أن يقول لرجل من شيعته يستصرخه ( إنك لغوي مبين ) ؟ الجواب من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن قوم موسى عليه السلام كانوا غلاظا جفاة ألا ترى إلى قولهم بعد مشاهدة الآيات : ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) ( الأعراف : 138 ) فالمراد بالغوي المبين ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه عليه السلام إنما سماه غويا ؛ لأن من تكثر منه المخاصمة على وجه يتعذر عليه دفع خصمه عما يرومه من ضرره يكون خلاف طريقة الرشد . واختلفوا في قوله تعالى : ( قال ياموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت ) أهو من كلام الإسرائيلي أو القبطي ؟ فقال بعضهم : لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غوي ورآه على غضب ظن لما هم بالبطش أنه يريده ، فقال هذا القول ، وزعموا أنه لم يعرف قتله بالأمس للرجل إلا هو ، وصار ذلك سببا لظهور القتل ومزيد الخوف ، وقال آخرون : بل هو قول القبطي ، وقد كان عرف القصة من الإسرائيلي ، والظاهر هذا الوجه ؛ لأنه تعالى قال : ( فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال ياموسى ) [ ص: 203 ] فهذا القول إذن منه لا من غيره ، وأيضا فقوله : ( إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض ) لا يليق إلا بأن يكون قولا للكافر .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم لا ينظر في العواقب ، ولا يدفع بالتي هي أحسن . وقيل : المتعظم الذي لا يتواضع لأمر أحد ، ولما وقعت هذه الواقعة انتشر الحديث في المدينة ، وانتهى إلى فرعون وهموا بقتله .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى ) قال صاحب "الكشاف" : يسعى يجوز ارتفاعه وصفا لـ ( رجل ) ، وانتصابه حالا عنه ، لأنه قد تخصص بقوله : ( من أقصى المدينة ) والائتمار التشاور . يقال : الرجلان يأتمران ؛ لأن كل واحد منهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر ، والمعنى : يتشاورون بسببك . وأكثر المفسرين على أن هذا الرجل مؤمن آل فرعون ، فعلى وجه الإشفاق أسرع إليه ليخوفه بأن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( فخرج منها خائفا يترقب ) أي خائفا على نفسه من آل فرعون ينتظر هل يلحقه طلب فيؤخذ ، ثم التجأ إلى الله تعالى لعلمه بأنه لا ملجأ سواه ، فقال : ( رب نجني من القوم الظالمين ) وهذا يدل على أن قتله لذلك القبطي لم يكن ذنبا ، وإلا لكان هو الظالم لهم وما كانوا ظالمين له بسبب طلبهم إياه ليقتلوه قصاصا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية