الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم .

لا يجوز أن يكون وآخرين عطفا على الأميين لأن آخرين يقتضي المغايرة لما يقابله فيقتضي أنه صادق على غير الأميين ، أي غير العرب والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بين غير العرب فتعين أن لا يعطف وآخرين على الأميين لئلا يتعلق بفعل بعث مجرور في ولا على الضمير في قوله منهم كذلك .

فهو إما معطوف على الضمير في عليهم من قوله يتلو عليهم والتقدير : يتلو على آخرين وإذا كان يتلو عليهم فقد علم أنه مرسل إليهم لأن تلاوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تكون إلا تلاوة تبليغ لما أوحى به إليه .

[ ص: 211 ] وإما أن يجعل ( وآخرين ) مفعولا معه . والواو للمعية ويتنازعه الأفعال الثلاثة وهي ( يتلو ، ويزكي ، ويعلم ) . والتقدير : يتلو على الأميين آياتنا ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة مع آخرين .

وجملة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين معترضة بين المعطوف والمعطوف عليها أو بين الضمائر والمفعول معه . و آخرين : جمع آخر وهو المغاير في وصف مما دل عليه السياق . وإذ قد جعل آخرين هنا مقابلا للأميين كان مرادا به آخرون غير الأميين ، أي من غير العرب المعنيين بالأميين .

فلو حملنا المغايرة على المغايرة بالزمان أو المكان ، أي مغايرين للذين بعث فيهم الرسول ، وجعلنا قوله ( منهم ) بمعنى أنهم من الأميين ، وقلنا أريد : وآخرين من العرب غير الذين كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - فيهم ، أي عربا آخرين غير أهل مكة ، وهم بقية قبائل العرب أكده ما روى البخاري ومسلم والترمذي يزيد آخرهم على الأولين عن أبي هريرة قال : كنا جلوسا عند النبيء - صلى الله عليه وسلم - فأنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال له رجل : من هم يا رسول الله ؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا ، وفينا سلمان الفارسي ووضع رسول الله يده على سلمان وقال : لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء وهذا وارد مورد التفسير لقوله تعالى ( وآخرين ) .

والذي يلوح أنه تفسير بالجزئي على وجه المثال ليفيد أن ( آخرين ) صادق على أمم كثيرة منها أمة فارس ، وأما شموله لقبائل العرب فهو بالأولى لأنهم مما شملهم لفظ الأميين .

ثم بنا أن ننظر إلى تأويل قوله تعالى ( منهم ) . قلنا أن نجعل من تبعيضية كما هو المتبادر من معانيها فنجعل الضمير المجرور ب من عائدا إلى ما عاد إليه ضمير ( كانوا ) من قوله وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ، فالمعنى : وآخرين من الضالين يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ولنا أن نجعل من اتصالية كالتي في قوله تعالى لست منهم في شيء والمعنى : وآخرين يتصلون بهم ويصيرون في جملتهم ، ويكون قوله ( منهم ) [ ص: 212 ] موضع الحال ، وهذا الوجه يناسب قوله تعالى لما يلحقوا بهم لأن اللحوق هو معنى الاتصال .

وموضع جملة لما يلحقوا بهم موضع الحال ، وينشأ عن هذا المعنى إيماء إلى أن الأمم التي تدخل في الإسلام بعد المسلمين الأولين يصيرون مثلهم ، وينشأ منه أيضا رمز إلى أنهم يتعربون لفهم الدين والنطق بالقرآن فكم من معان جليلة حوتها هذه الآية سكت عنها أهل التفسير .

وهذه بشارة غيبية بأن دعوة النبيء - صلى الله عليه وسلم - ستبلغ أمما ليسوا من العرب وهم فارس . والأرمن . والأكراد . والبربر . والسودان . والروم . والترك . والتتار . والمغول . والصين . والهنود ، وغيرهم وهذا من معجزات القرآن من صنف الإخبار بالمغيبات .

وفي الآية دلالة على عموم رسالة النبيء - صلى الله عليه وسلم - لجميع الأمم .

والنفي ب ( لما ) يقتضي أن المنفي بها مستمر الانتفاء إلى زمن التكلم فيشعر بأنه مترقب الثبوت كقوله تعالى ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ، أي وسيدخل كما في الكشاف ، والمعنى : أن آخرين هم في وقت نزول هذه الآية لم يدخلوا في الإسلام ولم يلتحقوا بمن أسلم من العرب وسيدخلون في أزمان أخرى .

واعلم أن قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء الإيماء إلى مثال مما يشمله قوله تعالى وآخرين منهم لأنه لم يصرح في جواب سؤال السائل بلفظ يقتضي انحصار المراد ب ( آخرين ) في قوم سلمان . وعن عكرمة : هم التابعون . وعن مجاهد : هم الناس كلهم الذين بعث إليهم محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقال ابن عمر : هم أهل اليمن .

وقوله وهو العزيز الحكيم تذييل للتعجيب من هذا التقدير الإلهي لانتشار هذا الدين في جميع الأمم . فإن العزيز لا يغلب قدرته شيء . والحكيم تأتي أفعاله عن قدر محكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية