الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الخامس والعشرون من القوادح ( القول بالموجب ) أي بما أوجبه دليل المستدل واقتضاه ، وهو - بفتح الجيم وبالكسر : نفس الدليل ; لأنه الموجب للحكم . والقول بالموجب هو ( تسليم مقتضى الدليل مع بقاء النزاع ) في الحكم ، وشاهد ذلك من القرآن قوله تعالى { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } جوابا لقول عبد الله بن أبي ابن سلول أو غيره { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } فإنه لما ذكر صفة - وهي العزة - وأثبت بها حكما - وهو الإخراج من المدينة - رد عليه بأن تلك الصفة ثابتة ، لكن لا لمن أراد ثبوتها له ، فإنها ثابتة لغيره ، باقية على اقتضائها للحكم ، وهو الإخراج . فالعزة موجودة ، لكن لا له ، بل لله ولرسوله وللمؤمنين .

ومن أمثلة ذلك أيضا : شعرا

وإخوان حسبتهم دروعا فكانوها ولكن للأعادي     وخلتهم سهاما صائبات
فكانوها ولكن في فؤادي     وقالوا قد صفت منا قلوب
لقد صدقوا ولكن من ودادي

وقول الآخر :

قلت ثقلت إذ أتيت مرارا     قال ثقلت كاهلي بالأيادي

والقول بالموجب نوع من بديع الكلام ( وأنواع ثلاثة ) . الأول ( أن [ ص: 573 ] يستنتج مستدل ) من الدليل ( ما يتوهمه محل النزاع أو لازمه ) أي لازم محل النزاع ( ك ) قوله ( القتل بمثقل قتل بما يقتل غالبا ، فلا ينافي القود كمحدد ) وكالقتل بالإحراق ( فيقال ) أي فيقول المعترض ( عدم المنافاة ليس محل النزاع ، ولا لازمه ) أي لازم محل النزاع . وأنا أقول بذلك أيضا ، ولا يكون ذلك دليلا علي في محل النزاع الذي هو وجوب القصاص .

النوع الثاني : ما أشير إليه بقوله ( أو إبطال ما يتوهمه ) يعني : أن يستنتج إبطال ما يتوهمه ( مأخذ الخصم ، ك ) قوله أيضا في القتل بالمثقل ( التفاوت في الوسيلة لا يمنع القود ، ك ) التفاوت في ( متوسل إليه ) ( فيقال ) أي فيقول الخصم : أنا أقول بموجب ذلك ، ولكن ( لا يلزم من إبطال مانع ) وهو كون التفاوت في الوسيلة غير مانع ( عدم كل مانع ) فيجوز أن لا يجب القود لمانع آخر ( و ) لا يلزم منه أيضا ( وجود الشرط ) للقود ( و ) لا وجود ( المقتضي ) له ( ويصدق معترض إن قال : ليس ذا ) أي ما تذهب إليه ( مأخذي ) أي مأخذ إمامي على الصحيح ; لأنه أعرف بمذهبه ومذهب إمامه . ثم لو لزمه إبداء المأخذ : فإن مكن المستدل من إبطاله صار معترضا ، وإلا فلا فائدة .

وقيل : لا يصدق معترض في قوله " ليس ذا مأخذي " إلا ببيان مأخذ آخر ، وقيل : يمكن المستدل من إبطاله ، فإن أبطله المستدل ، وإلا انقطع . قال ابن الحاجب : وأكثر القول بالموجب هذا القسم ، أي الذي يستنتج فيه ما يتوهم أنه مأخذ الخصم ، ولم يكن كذلك ، وإنما كان هذا أكثر لخفاء المآخذ ، وقلة العارفين بهذا ، والمطلعين على أسرارها ، بخلاف محال الخلاف فإن ذلك مشهور فكم من يعرف محل الخلاف ، ولكن لا يعرف المأخذ .

النوع الثالث : ما أشير إليه بقوله ( أو أن يسكت ) المستدل ( في دليله عن صغرى قياسه . وليست ) صغرى قياسه ( مشهورة ، ك ) قول الحنبلي أو الشافعي في وجوب نية الوضوء ( كل قربة شرطها النية ، ويسكت ) عن أن يقول ( والوضوء قربة ) . ( فيقال ) أي فيقول المعترض : هذا مسلم ( أقول بموجبه ، ولا ينتج ) ذلك ما أراده المستدل من كون الوضوء قربة ( ولو ذكرها ) أي ذكر المستدل صغرى قياسه [ ص: 574 ] ( لم يرد ) المعترض ( إلا منعها ) بأن يقول : لا أسلم أن الوضوء قربة . ويشترط في صغرى القياس المسكوت عنها : أن تكون غير مشهورة ، أما لو كانت مشهورة : فإنها تكون كالمذكورة ، فيمنع ولا يأتي بالقول بالموجب ( وجواب ) النوع ( الأول : بأنه محل النزاع أو لازمه ) أي لازم محل النزاع . كما لو قال حنبلي أو شافعي : لا يجوز قتل المسلم بالذمي قياسا على الحربي . فيقال : بالموجب ; لأنه يجب قتله به ، وقولكم " لا يجوز " نفي للإباحة التي معناها استواء الطرفين ، ونفيها ليس نفيا للوجوب ولا مستلزما له . فيقول الحنبلي : المعني ب " لا يجوز " تحريمه ، ويلزم من ثبوت التحريم نفي الوجوب لاستحالة الجمع بين الوجوب والتحريم ( وجواب ) النوع ( الثاني : بأن يبين ) في المستنتج ( أنه المأخذ لشهرته ) بالنقل عن أئمة المذهب .

( وجواب ) النوع ( الثالث : بجواز الحذف ) لإحدى المقدمتين مع العلم بالمحذوف ، والمحذوف مراد ومعلوم فلا يضر حذفه ، والدليل هو المجموع لا المذكور وحده . وكتب الفقه مشحونة بذلك ( ويجاب في الكل ) أي في الأنواع الثلاثة ( بقرينة أو عهد ونحوه ) . فائدة : كون القول بالموجب قادحا في العلة ذكره جماعة . منهم الآمدي والهندي ، ووجهوه بأنه إذا كان فيه تسليم موجب ما ذكره المستدل من الدليل ، وأنه لا يرفع الخلاف علمنا أن ما ذكره ليس بدليل الحكم . ونازع التاج السبكي في ذلك ، وقال : إن هذا يخرج لفظ القول بالموجب عن إجرائه على قضيته ، بل الحق أن القول بالموجب تسليم له ، وهذا ما اقتضاه كلام الجدليين ، وإليهم المرجع في ذلك ، وحينئذ لا يتجه عده من مبطلات العلة . ا هـ .

ونقل عن الجدليين أن في القول بالموجب انقطاعا لأحد المتناظرين ; لأن المستدل إن أثبت ما ادعاه انقطع المعترض ، وما قالوه صحيح في القسمين الأولين ، وهو بعيد في القسم الثالث ; لاختلاف المرادين ; لأن مراد المستدل أن الصغرى - وإن كانت محذوفة لفظا - فإنها مذكورة تقديرا والمجموع يفيد المطلوب .

ومراد المعترض : أن المذكور لما كانت الكبرى وحدها ، وهي لا تفيد المطلوب توجه الاعتراض ( و ) مثال القول [ ص: 575 ] بالموجب ( في الإثبات ك " الخيل حيوان يسابق عليه ففيه الزكاة كإبل " . فيقال بموجبه في زكاة التجارة ) أي بموجب وجوب الزكاة في الخيل إذا كانت للتجارة .

والنزاع في زكاة العين ودليلكم إنما أوجب الزكاة في الجملة ، فإن ادعى أنه أراد زكاة العين فليس هذا قولا بالموجب ( فيجاب فاللام العهد ) ; لأن العهد مقدم على الجنس والعموم ( والسؤال عن زكاة السوم ) فالعلة ليست مناسبة لزكاة التجارة إنما المناسب المقتضي هو النماء الحاصل ( ويصح ) هذا المثال ( في قول ) جزم به في الروضة وغيرها . ( ولا يصح في آخر ) ، وجزم به في الواضح لوجود استقلال العلة بلفظها .

التالي السابق


الخدمات العلمية