الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون

                          أقول : قد علم مما تقدم أن بعض المفسرين قالوا : إن المراد بقوله - تعالى - في الآيات السابقة : ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ما وعد الله به المؤمنين من النصر ، والظفر ، وأننا اخترنا أن المراد ذلك ، وما وعد من ثواب الآخرة . وعلى هذين القولين ، ربما يستبطئ بعض المؤمنين إيتاءهم الوعد المتعلق بالنصر ، والتغلب على الكافرين الظالمين كما يدل قوله - تعالى - : حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله [ 2 : 214 ] فجاء قوله - تعالى - : لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد الآية ، تسلية لهم ، وبيانا لكون الإملاء للكافرين ، واستدراجهم [ ص: 256 ] لا يصح أن يكون مدعاة ليأس المؤمنين ولا حجة للمنافقين الذين قالوا عند الشدة : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا [ 33 : 12 ] ، فهذا وجه في اتصال هذه الآية بما قبلها في ترتيب الآيات الشريفة .

                          وقال الإمام الرازي : اعلم أنه - تعالى - لما وعد المؤمنين بالثواب العظيم ، وكانوا في الدنيا في نهاية الفقر والشدة ، والكفار كانوا في النعم ، ذكر الله - تعالى - في هذه الآية ما يسليهم ، ويصبرهم على تلك الشدة .

                          وقال الأستاذ الإمام : كان الكلام في أولي الألباب المؤمنين ، وقد علمنا أن الله - تعالى - يستجيب لهم بالأعمال ، فالعبرة بالعمل ، ومنه المهاجرة ، وتحمل الإيذاء في سبيل الله ، وبذل النفس في القتال حتى يقتلوا ; وبذلك يستحقون ثواب الله - تعالى - ، ثم ذكر حال الكافرين للمقابلة ، وربط الكلام بما قبله بالنهي عن الاغترار بما هم فيه من نعيم ، وتمتع ، كأنه يقول : على المؤمن أن يجعل مرمى طرفه ذلك الثواب الذي وعدته ، فهو النعيم الحقيقي الباقي ، وهذا الذي فيه الكافرون متاع قليل ، فلا تطلبوه ، ولا تحفلوا به . يسهل بهذا على المسلمين ما كلفوه من تحمل الإيذاء والعناء في إقامة الحق .

                          أقول : أما معنى الآية : فهو لا يغرنك أيها المخاطب المؤمن ، أو لا يغرنك يا محمد ( قولان ) تقلبهم ، قالوا : وما خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - من مثل هذا فالمراد به أمته ، فروي عن قتادة أنه قال : والله ما غروا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قبضه الله . ومعنى غره : أصاب غرته ، فنال منه بالقول شيئا مما يريد ، وهو غافل عن ذلك لم يفطن لما في باطن الشيء مما يخالف الظاهر . قال الراغب : والغرة ( بالكسر ) غفلة في اليقظة ، والغرار : غفلة مع غفوة . وأصل ذلك من الغر ( بالفتح ) وهو الأثر الظاهر من الشيء ، ومنه غرة الفرس ، وغرار السيف أي حده . وغر الثوب : أثر كسره ، وقيل : اطوه على غره ، وغره كذا غرورا كأنما طواه على غره اهـ . فالأظهر أن الغرور مأخوذ من الغرة ( بالكسر ) أي الغفلة ، ويقرب منه ، أو يتصل به أخذه من غر الثوب ( بالفتح ) وهو أثر طيه الذي يعبر عنه بالثني والكسر ، وجمع الغر على غرور ، قال في الأساس : " واطوه على غروره أي مكاسره " ، والمراد : اطوه على طياته الأولى ليبقى على ما كان عليه ، ومنه غرارة الصغار ( بالفتح ) أي سذاجتهم ، وقلة تجاربهم يقال : فتى غر ، وفتاة غر ( بالكسر ) وقيل : إن الغرور مأخوذ من الغرار بالكسر ، وهو من السيف ، والسهم ، والرمح حدها ، قالوا : غرة أي خدعة وأطمعه بالباطل كأنه ذبحه بالغرار . وفيه مبالغة وبعد .

                          وحاصل معنى النهي عن الغرور : أن تقلب الذين كفروا في البلاد آمنين معتزين لا ينبغي أن يكون سببا لغرور المؤمن بحالهم ، وتوهمه أن هذا شيء يدوم لهم ، فإن هذا من إبقاء [ ص: 257 ] الأشياء على ظاهرها من غير بحث عن أسبابها ، وعللها ، والغوص على بطونها ، ودخائلها ، كما يطوى الثوب على غره ، وكما ينظر الغر إلى ظواهر الأشياء دون بواطنها . ومن اكتنه حالهم الاجتماعية علم أن تقلبهم في البلاد وتمتعهم بالأمن ، والنعمة فيها ليس قائما على أساس متين ، ولا مرفوعا على ركن ركين ، وإنما هو من قبيل حركة الاستمرار لمحرك من الباطل سابق لم يكن له معارض ، فإذا عارضه ما عليه المؤمنون من الحق لا يلبث أن يزول بالنسبة إلى مجموعهم ، وأما من يموت من أفرادهم على فراش نعيمه ، ولم ينسأ له في أجله إلى أن يظهر أمر المؤمنين فما يستقبله من عذاب الآخرة أعظم مما ناله من نعيم الدنيا ، والنتيجة أن ذلك كما قال : متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد أي ذلك التقلب في البلاد الذي يتمتعون به متاع قليل عاقبته هذا المأوى الذي ينتهون إليه في الآخرة ، فيكونون خالدين فيه ، سواء منهم من مات متمتعا بدنياه ، ومن أنسئ له في عمره حتى أدركه الخذلان بنصر الله المؤمنين فسلب منه متاعه ، أو نغصه عليه ، وأما المؤمنون فسيأتي ما لهم في مقابلة هذا في الآية الآتية . وجهنم : اسم للدار التي يجازى فيها الكافرون في الآخرة . قيل : إنها أعجمية معربة ، وقيل : بل هي عربية من قولهم : ركية جهنام ( بكسر الجيم والهاء والتشديد ) أي بئر بعيدة القعر ، فجهنم إذا بمعنى الهاوية . والمهاد : المكان المهد الموطأ كالفراش ، قيل : سميت النار مهادا تهكما بهم . وقد تقدم ذكر الكلمتين في البقرة [ 2 : 206 - فراجع ص201 وما بعدها ج 2 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب ] .

                          قيل : إن الآية نزلت في مشركي مكة إذ كانوا يضربون في الأرض يتجرون ويكسبون ، على حين لا يستطيع المسلمون ذلك لوقوف المشركين لهم بالمرصاد ، وإيقاعهم بهم أينما ثقفوهم ، وعجز هؤلاء عن مقاومتهم إذا خرجوا من دارهم للتجارة ، أو غير التجارة ، ويروى أن بعض المؤمنين قال : إن أعداء الله فيما نرى من الخير ، وقد هلكنا من الجوع ، والجهد ، فنزلت الآية . وقال الفراء : كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال ، فنزلت هذه الآية في ذلك .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية