الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 231 ] 34 - فصل في الصابئة .

                          وقد اختلف الناس فيهم اختلافا كثيرا ، وأشكل أمرهم على الأئمة لعدم الإحاطة بمذهبهم ودينهم .

                          فقال الشافعي رحمه الله تعالى : هم صنف من النصارى ، وقال في موضع : ينظر في أمرهم فإن كانوا يوافقون النصارى في أصل الدين ولكنهم يخالفونهم في الفروع فتؤخذ منهم الجزية ، وإن كانوا يخالفونهم في أصل الدين لم يقروا على دينهم ببذل الجزية .

                          [ ص: 232 ] واختلف أصحابه فقال أبو سعيد الإصطخري : ليسوا من النصارى ولا يجوز إقرارهم على دينهم ، قال : لأنهم يقولون : إن الفلك حي ناطق ، وإن الكواكب السبعة آلهة فهم في حكم عبدة الأوثان .

                          واستفتى القاهر بالله العباسي الفقهاء فيهم ، فأفتاه أبو سعيد أنهم لا يقرون فأمر بقتلهم ، فبذلوا مالا عظيما فتركهم .

                          وأما أقوال السلف فيهم : فذكر سفيان عن ليث عن مجاهد قال : هم قوم بين اليهود والمجوس ليس لهم دين .

                          [ ص: 233 ] وفي تفسير شيبان عن قتادة قال : الصابئة قوم يعبدون الملائكة .

                          قال محمد بن جرير : واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل ، فقال بعضهم : يلزم كل [ خارج ] من دين إلى دين غير دينه .

                          وقالوا : الذي عنى الله بهذا الاسم قوم لا دين لهم ، ثم ذكر عن عبد الرزاق عن سفيان عن ليث عن مجاهد قال : الصابئون قوم ليسوا يهود ولا نصارى ولا دين لهم .

                          وحكي عن حجاج عن مجاهد قال : الصابئون بين المجوس واليهود ، لا [ ص: 234 ] تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم .

                          وقال ابن جريج : قلت لعطاء الصابئون زعموا [ أنهم ] ليسوا بمجوس ولا يهود ولا نصارى ، قال : قد سمعنا ذلك .

                          وقال ابن وهب : قال ابن زيد : الصابئون أهل دين من الأديان كانوا [ ص: 235 ] بجزيرة الموصل يقولون : لا إله إلا الله ، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول : لا إله إلا الله ، قال : ولم يؤمنوا برسول الله عز وجل ، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي وأصحابه : هؤلاء الصابئون ، يشبهونهم بهم .

                          وقال سعيد عن قتادة : هم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرءون الزبور .

                          وقال سفيان عن السدي : هم طائفة من أهل الكتاب .

                          [ ص: 236 ] وقال ابن جرير : الصابئ المستحدث سوى دينه دينا كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه ، وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره تسميه العرب صابئا ، يقال منه : صبأ فلان يصبأ صبأ ، ويقال : صبأت النجوم إذا طلعت ، وصبأ علينا فلان إذا طلع .

                          قلت : الصابئة أمة كبيرة فيهم السعيد والشقي ، وهي إحدى الأمم المنقسمة إلى مؤمن وكافر ، فإن الأمم قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - نوعان :

                          نوع كفار أشقياء كلهم ليس فيهم سعيد كعبدة الأوثان والمجوس .

                          ونوع منقسمون إلى سعيد وشقي ، وهم اليهود والنصارى والصابئة .

                          وقد ذكر الله سبحانه النوعين في كتابه فقال : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

                          [ ص: 237 ] وكذلك قال في المائدة . وقال في سورة الحج : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد ، فلم يقل هاهنا : من آمن منهم بالله واليوم الآخر ; لأنه ذكر معهم المجوس والذين أشركوا فذكر ست أمم ، منهم اثنتان شقيتان ، وأربع منهم منقسمة إلى شقي وسعيد ، وحيث وعد أهل الإيمان والعمل الصالح منهم بالأجر ذكرهم أربع أمم ليس إلا .

                          ففي آية الفصل بين الأمم أدخل معهم الأمتين ، وفي آية الوعد بالجزاء لم يدخلها معهم ، فعلم أن الصابئين فيهم المؤمن والكافر والشقي والسعيد وهذه أمة قديمة قبل اليهود والنصارى وهم أنواع : صابئة حنفاء وصابئة مشركون .

                          وكانت حران دار مملكة هؤلاء قبل المسيح ، ولهم كتب وتآليف [ ص: 238 ] وعلوم ، وكان في بغداد منهم طائفة كبيرة منهم إبراهيم بن هلال الصابئ صاحب " الرسائل " وكان على دينهم ويصوم رمضان مع المسلمين ، وأكثرهم فلاسفة ولهم مقالات مشهورة ذكرها أصحاب المقالات .

                          وجملة أمرهم أنهم لا يكذبون الأنبياء ولا يوجبون اتباعهم ، وعندهم أن من اتبعهم فهو سعيد ناج وأن من أدرك بعقله ما دعوا إليه فوافقهم فيه وعمل بوصاياهم فهو سعيد وإن لم يتقيد بهم .

                          فعندهم : دعوة الأنبياء حق ولا تتعين طريقا للنجاة وهم يقرون أن للعالم صانعا مدبرا حكيما منزها عن مماثلة المصنوعات ، ولكن كثيرا منهم أو أكثرهم قالوا : نحن عاجزون عن الوصول إلى جلاله بدون الوسائط ، والواجب التقرب إليه بتوسط الروحانيين المقدسين المطهرين عن المواد الجسمانية ، المبرئين عن القوى الجسدية المنزهين عن الحركات المكانية والتغييرات الزمانية بل قد جبلوا على الطهارة وفطروا على التقديس .

                          قالوا وإنما أرشدنا إليهم معلمنا الأول " هرمس " فنحن نتقرب إليهم [ ص: 239 ] وبهم ، وهم آلهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب وإله الآلهة ، فالواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن الشبهات الطبيعية ونهذب أخلاقنا عن علائق القوة العصبية حتى تحصل المناسبة بيننا وبين الروحانيات ، فحينئذ نسأل حاجاتنا منهم ، ونعرض أحوالنا عليهم ، ونصبوا في جميع أمورنا إليهم ، فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم ورازقنا ورازقهم ، وهذا التطهير والتهذيب لا يحصل إلا برياضتنا وفطام أنفسنا عن دنيات الشهوات ، وذلك إنما يتم بالاستمداد من جهة الروحانيات ، والاستمداد هو التضرع والابتهال بالدعوات ، وإقامة الصلوات وإيتاء الزكوات ، والصيام عن المطعومات والمشروبات وتقريب القرابين والذبائح وتبخير البخورات مع العزائم ليحصل لنفوسنا استعداد إلى الاستمداد العالي من غير واسطة ، فيكون حكمنا وحكم الأنبياء في ذلك واحدا .

                          قالوا : والأنبياء أتوا بتزكية النفوس وتهذيبها وتطهير الأخلاق من الرذائل ، فمن أطاعهم فهو سعيد .

                          قالوا : والروحانيات هي الأسباب المتوسطة في الاختراع والإيجاد وتصريف الأمور من حال إلى حال وهي تستمد القوة من الحضرة القدسية وتفيض الفيض على الموجودات السفلية ، فمنها مدبرات الكواكب السبعة السيارة في أفلاكها ، وهي هياكلها فلكل روحاني هيكل وهو فلك ، ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختص به نسبة الروح إلى الجسد ، فهو ربه ومدبره .

                          [ ص: 240 ] ويقولون : الهياكل آباء ، والعناصر أمهات ، فتفعل الروحانيات تحريكها على قدر مخصوص ليحصل من حركتها انفعالات في الطبائع والعناصر ، فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات ، تركب عليها نفوس روحانية مثل أنواع النبات وأنواع الحيوانات ، ثم قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن روحاني كلي ، وقد تكون جزئية صادرة عن روحاني جزئي ومنها مدبرات الآثار العلوية الظاهرة في الجو كالمطر والثلوج والبرد والرياح والصواعق والشهب والرعد والبرق والسحاب ، والآثار السفلية كالزلازل والمياه وغيرها .

                          قالوا : ومدبرات هادية سارية في جميع الكائنات حتى لا يرى بوجودها خال عن قوة وهداية بحسب قبوله واستعداده .

                          وأما أحوال الروحانيات من الروح والريحان والنعمة واللذة والراحة والبهجة والفرح والسرور في جوار رب الأرباب فمما لا يخطر على قلب بشر ، طعامهم وشرابهم التسبيح والتقديس والتهليل والتمجيد ، وأنسهم بذكر الله تعالى وطاعته ، فهم بين قائم وراكع وساجد وقاعد لا يريد تبديل حالته التي هو فيها بغيرها ، إذ لذته وبهجته وسروره فيما هو فيه .

                          قالوا : والروحانيات مبادئ الموجودات ومواد الأرواح ، والمبادئ أشرف ذاتا وأسبق وجودا وأعلى رتبة من سائر الموجودات التي حصلت بتوسطها ، فعالمها عالم الكمال ، والمبدأ منها والمعاد إليها والمصدر عنها والمرجع إليها والأرواح لها نزلت من عالمها حتى اتصلت بالأبدان وتوسخت بأوضار الأجسام ثم تطهرت عنها بالأخلاق الزكية والأعمال المرضية حتى انفصلت عنها فصعدت إلى عالمها الأول ، فالنزول هو النشأة [ ص: 241 ] الأولى والصعود هو النشأة الأخرى .

                          قالوا : وطريقنا في التوسل إلى حضرة القدس ظاهر وشرعنا معقول ، فإن قدامانا من الزمان الأول لما أرادوا الوسيلة عملوا أشخاصا في مقابلة الهياكل العلوية على نسب وإضافات وأحوال وأوقات مخصوصة ، وأوجبوا على من يتقرب بها إلى ما يقابلها من العلويات لباسا وبخورا وأدعية مخصوصة ، وعزائم يقربونها إلى رب الأرباب ومسبب الأسباب وتلقينا ذلك عن مرعاديموت وهرمس .

                          فهذا بعض ما نقله أرباب المقالات عن دين الصابئة ، وهو بحسب ما وصل إليهم ، وإلا فهذه الأمة فيهم المؤمن بالله وأسمائه وصفاته وملائكته ورسله واليوم الآخر ، وفيهم الكافر وفيهم الآخذ من دين الرسل بما وافق عقولهم واستحسنوه فدانوا به ورضوه لأنفسهم .

                          وعقد أمرهم أنهم يأخذون بمحاسن ما عند أهل الشرائع بزعمهم ، ولا يوالون أهل ملة ويعادون أخرى ولا يتعصبون لملة على ملة ، والملل عندهم نواميس لمصالح العالم ، فلا معنى لمحاربة بعضها بعضا بل يؤخذ بمحاسنها وما تكمل به النفوس وتتهذب به الأخلاق ولذلك سموا صابئين كأنهم صبئوا عن التعبد بكل ملة من الملل والانتساب إليها ؛ ولهذا قال غير واحد من السلف : ليسوا يهودا ولا نصارى ولا مجوسا وهم نوعان : صابئة حنفاء ، وصابئة مشركون ؛ فالحنفاء هم الناجون منهم ، [ ص: 242 ] وبينهم مناظرات ورد من بعضهم على بعض ، وهم قوم إبراهيم - كما أن اليهود قوم موسى - والحنفاء منهم أتباعه .

                          وبالجملة : فالصابئة أحسن حالا من المجوس ، فأخذ الجزية من المجوس تنبيه على أخذها من الصابئة بطريق الأولى ، فإن المجوس من أخبث الأمم دينا ومذهبا ولا يتمسكون بكتاب ولا ينتمون إلى ملة ولا يثبت لهم كتاب ولا شبهة كتاب أصلا .

                          ولهذا لما ظهرت فارس على الروم فرح المشركون بذلك ; لأنهم مثلهم ليسوا أهل كتاب وساء ذلك المسلمين ، فلما ظهرت الروم على فارس فرح المسلمون لأن النصارى أقرب إليهم من المجوس من أجل كتابهم وكل ما عليه المجوس من الشرك ، فشرك الصابئة إن لم يكن أخف منه فليس بأعظم منه .

                          وقد تردد الشافعي رحمه الله تعالى في أخذ الجزية منهم في موضع ، وقطع بأخذها منهم في موضع وعلق القول في موضع كما حكينا لفظه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية