الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      صفحة جزء
      [ ص: 136 ]

      الأحد الفرد القدير الأزلي الصمد البر المهيمن العلي     علو قهر وعلو الشأن
      جل عن الأضداد والأعوان     كذا له العلو والفوقيه
      على عباده بلا كيفيه

      .

      ( الأحد الفرد ) الذي لا ضد له ولا ند له ، ولا شريك له في إلهيته وربوبيته ، ولا متصرف معه في ذرة من ملكوته ، ولا شبيه له ولا نظير له في شيء من أسمائه وصفاته ، فهو أحد في إلهيته ، لا معبود بحق سواه ، ولا يستحق العبادة إلا هو ، ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه ، وهو أحد في ربوبيته ، فلا شريك له في ملكه ، ولا مضاد ولا منازع ولا مغالب ، أحد في ذاته وأسمائه وصفاته ، فلا شبيه له ولا مثيل ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ، فكما أنه الأحد الفرد في ذاته وإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته ، فهو المتفرد في ملكوته بأنواع التصرفات من الإيجاد والإعدام ، والإحياء والإماتة ، والخلق والرزق ، والإعزاز والإذلال ، والهداية والإضلال ، والإسعاد والإشقاء ، والخفض والرفع ، والعطاء والمنع ، والوصل والقطع ، والضر والنفع ، فلو اجتمع أهل السماوات السبع ، والأرضين السبع ومن فيهن وما بينهم على إماتة من هو محييه ، أو إعزاز من هو مذله ، أو هداية من هو مضله ، أو إسعاد من هو مشقيه ، أو خفض من هو رافعه ، أو وصل من هو قاطعه ، أو إعطاء من هو مانعه ، أو ضر من هو نافعه ، أو عكس ذلك ، لم يكن ذلك بممكن في استطاعتهم ، وأنى لهم ذلك والكل خلقه وملكه وعبيده ، وفي قبضته وتحت تصرفه وقهره ، ماض فيهم حكمه ، عدل فيهم قضاؤه ، نافذة فيهم مشيئته ، لا امتناع لهم عما قضاه ، ولا خروج لهم من قبضته ، ولا تحرك ذرة في السماوات والأرض ، ولا تسكن إلا بإذنه ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فسحقا لأصحاب السعير ، كيف جحدوا بآياته وأشركوا في إلهيته وربوبيته من هو مخلوق مربوب مثلهم ، لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، واتخذوهم من دونه أربابا وأندادا ، سووهم به وعدلوهم به ، واعتقدوا أنهم متصرفون معه في ملكوته ، وعبدوهم من دونه ، وهم يرون ويعلمون أنهم محدثون بعد أن لم يكونوا ، مسبوقون بالعدم عاجزون عن القيام بأنفسهم ، فقراء إلى من يقوم بهم ، وألحدوا في أسماء الله وصفاته وآياته على اختلافهم في صناعة الإلحاد ، فبين مشبه له - تعالى - بالعدم ، وهم [ ص: 137 ] نفاة أسمائه وصفاته ، بل هم نفاة وجود ذاته ، وبين مشبه له بالمخلوقات ، ممثل صفاته - تعالى - بصفات الحادثات المحدثات حاكمين عليه بعقولهم ، واصفين له بما لم يصف به نفسه .

      وآخرون جحدوا إرادته ومشيئته النافذة ، وقدرته الشاملة وأفعاله وحكمته وحمده ، وجعلوا أنفسهم هم الفاعلين لما شاءوا ، الخالقين لما أرادوا من دون مشيئة لله ولا إرادة ، وجحدوا أن يكون الله خلقهم وما يعملون ، وآخرون جعلوا قضاءه وقدره حجة لهم على ترك أوامره ونواهيه ، وأنهم لا قدرة لهم ولا اختيار ، وأنه كلفهم بفعل ما لا يطاق فعله ، وترك ما لا يطاق تركه ، وجعلوا معاصيه طاعات إذ وافقت مشيئته الكونية وقدره الكوني ، فخاصموه بمشيئته وأقداره ، وعطلوا أوامره ونواهيه ، ونسبوه إلى الظلم - تعالى - وأن تعذيبه من لم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ولم يقم الصلاة ولم يؤت الزكاة ، ولم يصم ولم يحج ، ولم يعمل الطاعات ، ولم يترك المعاصي ، كتعذيب الذكر لم يصر أنثى ، والأنثى لم تصر ذكرا ، وأن أمرهم بالصلاة وغيرها كأمر الآدمي بالطيران ، والأعمى بنقط المصاحف ، أولئك خصماء الله يوم القيامة ، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ، ورضي الله عن المؤمنين إذ عرفوه حق معرفته ، وقدروه حق قدره ، ووحدوه بإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته ، وأثبتوا له ما أثبته لنفسه ، ونفوا عنه التمثيل ، وآمنوا بقضائه وقدره ، وتلقوه بالرضا والتسليم ، وأن ذلك موجب ربوبيته ومقتضى إلهيته ، واللائق بحكمته وحمده ، وتلقوا أمره بالسمع والطاعة ، والامتثال والانقياد ، ووقفوا عند نواهيه وحدوده فلم يعتدوها ، ونزلوا كلا من القدر والشرع منزلته ، ولم ينصبوا الخصام بينهما ، فالقضاء والقدر يؤمن به ولا يحتج به ، والأمر والنهي يطاع ويمتثل ، فالإيمان بالقدر من كمال التوحيد ، وشهادة أن لا إله إلا الله والقيام بالأمر والنهي موجب شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن لا يؤمن بالقضاء والقدر وينقاد للأمر والنهي ، فهو مكذب بالشهادتين ، ولو نطق بهما بلسانه ، وهذا البحث سيأتي تفصيله عن قريب إن شاء الله في موضعه .

      وإنما ساقنا إليه هاهنا الكلام على كمال أحدية الله - عز وجل - في إلهيته وربوبيته ، وأسمائه وصفاته وأفعاله ، وقدره وشرعه ، وأنه لا معارض لمشيئته ، ولا معقب لحكمه ، وأن المخلوق لا تصرف له في نفسه ، فضلا عن غيره ، ولا قدرة له على ما لم يقدره الله - تعالى - عليه ، فكيف يسوي به [ ص: 138 ] ويعدل به ويشرك معه في إلهيته ، أو ينسب إليه التصرف في شيء من ملكوته ، وكم يقيم الحجة - تبارك وتعالى - على من أشرك معه إلها غيره بأحديته في الربوبية والأسماء والصفات وإقرار المشرك بها ، وأن آلهته التي أشرك لا تتصف بشيء منها ، ويلزمه إفراده بالألوهية الملازمة للربوبية ، كما قال تعالى : ( رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا ) ، ( مريم : 65 ) ، وقال تعالى : ( الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون ) ، ( الروم : 40 ) ، وقال تعالى : ( قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون وما ) ، ( يونس : 34 - 35 ) ، إلى غير ذلك من الآيات .

      التالي السابق


      الخدمات العلمية