الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل في تعارض الأصلين قال الإمام ، وليس المراد بتعارض الأصلين ، تقابلهما ، على وزن واحد في الترجيح فإن هذا كلام متناقض ، بل المراد التعارض ، بحيث يتخيل الناظر في ابتداء نظره لتساويهما فإذا حقق فكره رجح ، ثم تارة يجزم بأحد الأصلين وتارة يجري الخلاف ويرجح بما عضده من ظاهر أو غيره ، قال ابن الرفعة : ولو كان في جهة أصل ، وفي جهة أصلان جزم لذي الأصلين . ولم يجر الخلاف .

                فمن فروع ذلك : إذا ادعى العنين الوطء في المدة ، وهو سليم الذكر والأنثيين فالقول ، قوله قطعا ، مع أن الأصل عدم الوطء ; لأن الأصل بقاء النكاح . واعتضد بظاهره أن سليم ذلك لا يكون عنينا في الغالب فلو كان خصيا ، أو مجبوبا جرى وجهان ، والأصح تصديقه أيضا ; لأن إقامة البينة على الوطء تعسر ، فكان الظاهر الرجوع إلى قوله فلو ثبتت بكارتها رجعنا إلى تصديقها قطعا ; لاعتضاد أحد الأصلين بظاهر قوي .

                ومنها : قالت : سألتك الطلاق بعوض فطلقتني عليه متصلا فأنا منك بائن وقال بل يعد طول الفصل ، فلي الرجعة فالمصدق الزوج . قال السبكي : ولم يخرجوه على تقابل الأصلين .

                ومنها : قال : بعتك الشجرة بعد التأبير فالثمرة لي ، وعاكسه المشتري صدق البائع لأن الأصل بقاء ملكه . جزم به في الروضة .

                ومنها : اختلفا في ولد المبيعة فقال البائع : وضعته قبل العقد . وقال المشتري : بل بعده قال الإمام : كتب الحليمي إلى الشيخ أبي حامد يسأله عن ذلك ؟ فأجاب : بأن القول قول البائع ; لأن الأصل بقاء ملكه ، وحكى الدارمي في المصدق وجهين .

                [ ص: 69 ] ومنها : اختلف مع مكاتبته . فقالت : ولدته بعد الكتابة ، فمكاتب مثلي . وقال السيد : بل قبلها صدق السيد . قاله البغوي والرافعي . قالا : ولو زوج أمته بعبده ، ثم باعها له ، فولدت وقد كاتبه وقال السيد : ولدت قبل الكتابة ، فهو لي ، وقال المكاتب بل بعد الشراء فمكاتب صدق المكاتب ، وفرقا بأن المكاتب هنا يدعي ملك الولد لأن ولد أمته ملكه ، ويده مقرة على هذا الولد ، وهي تدل على الملك ، والمكاتب لا يدعي الملك ، بل ثبوت حكم الكتابة فيه .

                ومنها : لو وقع في الماء نجاسة وشك : هل هو قلتان ، أو أقل ؟ فوجهان : أحدهما يتنجس ، وبه جزم صاحب الحاوي ، وآخرون لتحقق النجاسة . والأصل عدم الكثرة .

                والثاني : لا ، وصوبه النووي لأن الأصل : الطهارة ، وقد شككنا في نجاسة منجسه ; ولا يلزم من النجاسة التنجيس . ورجح الشيخ زين الدين الكيناني مقالة صاحب الحاوي ، وتبعه البلقيني ; لأن النجاسة محققة ، وبلوغ القلتين شرط ، والأصل عدمه ، ولا يجوز الأخذ بالاستصحاب عند القائلين به ، إلا أن يقطع بوجود المنافي ، وأما السبكي فإنه رجح مقالة النووي .

                وخرج ابن أبي الصيف على هذه المسألة فرعا ، وهو : قلتان متغيرتان بنجاسة ، ثم غاب عنهما ثم عاد ، ولا تغير ، وشك في بقاء الكثرة ، فقال : إن قلنا بالطهارة في الأولى فهنا أولى وإلا فوجهان ; لأن الأصل بقاء الكثرة ، ونازعه المحب الطبري ، فقال : لا وجه للبناء ، ولا للخلاف لأن تلك تعارض فيها أصلان ، فنشأ قولان ، وهنا الأصل بقاء الكثرة بلا معارض .

                ومنها : لو شككنا فيما أصاب من دم البراغيث أقليل ، أم كثير ؟ ففيه احتمالان للإمام ; لأن الأصل : اجتناب النجاسة ، والأصل في هذه النجاسة العفو ، وهذه المسألة نظير ما قبلها ، وقد رجح في أصل الروضة : أن له حكم القليل .

                ومنها : لو أدرك الإمام وهو راكع ، وشك هل فارق حد الركوع قبل ركوعه فقولان : أحدهما : أنه مدرك ، لأن الأصل بقاء ركوعه ، والثاني : لا ; لأن الأصل عدم الإدراك ، وهو الأصح .

                ومنها : لو نوى وشك هل كانت نيته قبل الفجر ، أو بعده ؟ لم يصح صومه لأن الأصل عدم النية . قال النووي : ويحتمل أن يجيء فيه وجه ; لأن الأصل بقاء الليل ، كمن شك في إدراك الركوع .

                ومنها : لو أصدقها تعليم قرآن ، ووجدناها تحسنه فقال : أنا علمتها وقالت : بل غيره ، فقولان ; لأن الأصل بقاء الصداق وبراءة ذمته والأصح تصديقها .

                ومنها : إذا غاب العبد ، وانقطعت أخباره : ففي قول : تجب فطرته وهو الأصح لأن [ ص: 70 ] الأصل بقاء حياته ، وفي قول : لا ; لأن الأصل براءة ذمة السيد ورجح الأول بأنه ثبت اشتغال ذمة السيد قبل غيبة العبد بفطرته ، فلا تزال إلا بيقين موته ، ويجري القولان في إجزاء عتقه عن الكفارة ، والأصح أنه لا تجزيه لأن الأصل اشتغال ذمته بالكفارة فلا تبرأ إلا بيقين ونظيره في إعمال كل من الأصلين في حالة ما إذا أدخل رجله الخف وأحدث قبل وصول القدم إلى مستقرها لا يجوز المسح ولو أخرجها إلى الساق ثم أدخلها ، لا يضر ، عملا بالأصل في الموضعين .

                ولو أراد جماعة إنشاء قرية لا للسكن فأقيم بها الجمعة لم يجز ، ولو كانت قرية وانهدمت وأقام أهلها لبنائها وأقيم بها الجمعة صح عملا بالأصل في الموضعين ، ولو وجد لحما ملقى ، وشك هل هو ميتة ، أو مذكى ؟ لا يحل أكله ، ولو لاقى شيئا لم ينجسه ، عملا بالأصل فيهما .

                ومنها : أذن المرتهن في البيع ورجع ، ثم ادعى الرجوع قبل البيع فوجهان ; لأن الأصل عدم البيع ، وعدم الرجوع ، والأصح تصديق المرتهن .

                ومنها : لو شك : هل رضع في الحولين أم بعدهما ، فقولان لأن الأصل الحل وبقاء الحولين ، والأصح لا تحريم :

                ولو شك : هل رضع خمسا أو أقل ، فلا تحريم قطعا لعدم معارضة أصل الإباحة بأصل آخر .

                ومنها : باعه عصيرا وأقبضه ووجد خمرا ، فقال البائع تخمر عندك وقال المشتري بل عندك ، فالأصل عدم التخمر وعدم قبض الصحيح ، وصحح النووي تصديق البائع ترجيحا لأصل استمرار البيع ، ويجري القولان فيما لو كان رهنا مشروطا في بيع .

                ومنها : لو قبض المسلم فيه فجاء بمعيب وقال : هذا الذي قبضته ، وأنكر المسلم إليه فالأصح : تصديق المسلم لأن الأصل اشتغال ذمة المسلم إليه ، ولم يتيقن البراءة والثاني يصدق المسلم إليه لأن الأصل السلامة واستقرار العقد ، ولهذا يصدق البائع قطعا فيما لو جاء المشتري بمعيب ، وقال : هذا المبيع ، لأنه لم يعارضه أصل اشتغال الذمة ، وفارق المسلم لأنهما اتفقا على قبض ما ورد عليه الشراء وتنازعا في عيب الفسخ ، والأصل عدمه ، والثمن المعين كالبيع ، وفي الذمة فيه الوجهان في السلم .

                ومنها : لو رأى المبيع قبل العقد ، ثم قال البائع : هو بحاله ، وقال المشتري : بل تغير فوجهان ، أحدهما يصدق البائع ; لأن الأصل عدم التغيير ، والأصح المشتري لأن البائع يدعي عليه الاطلاع على المبيع على هذه الصفة والمشتري ينكر ذلك .

                ومنها : إذا سلم الدار المستأجرة ثم ادعى المستأجر أنها غصبت ، فالأصح أن القول قول المكري ; لأن الأصل عدم الغصب ووجه الآخر أن الأصل عدم الانتفاع ، لكن اعتضد [ ص: 71 ] الأول بأنه بعد التسليم بقي الأصل : وجوب الأجرة عليه إلى أن يتبين ما يسقطها .

                ومنها : لو أعطاه ثوبا ليخيطه فخاطه قباء وقال : أمرتني بقطعه قباء ، فقال : بل قميصا فالأظهر تصديق المالك لأن الأصل عدم الإذن في ذلك ، والثاني المستأجر ; لأن الأصل براءة ذمته ، والظاهر : أنه لا يتجاوز إذنه .

                ومنها : قد ملفوفا وزعم موته ، ففي قول يصدق القاد لأن الأصل براءة ذمته والأصح يصدق الولي ; لأن الأصل بقاء الحياة .

                ومنها : لو زعم الولي سراية والجاني سببا آخر ، فالأصح تصديق الولي لأن الأصل عدم السبب .

                والثاني الجاني لأن الأصل براءة الذمة .

                ولو عكس بأن قطع يديه ورجليه ، وزعم الولي سببا آخر ، والجاني سراية فالأصح تصديق الولي ; لأن الأصل بقاء الديتين الواجبتين ، والثاني : الجاني ، لأن الأصل براءة ذمته .

                ومنها : لو قلع سن صغير ومات قبل العود فقيل : يجب الأرش ; لأن الجناية قد تحققت ، والأصل عدم العود ، والأصح : لا ، لأن الأصل براءة الذمة ، والظاهر أنه لو عاش لعادت .

                ومنها : ادعى أحد الزوجين التفويض والآخر التسمية ، فالأصل عدم التسمية من جانب وعدم التفويض من جانب ، كذا في أصل الروضة . قال البلقيني : لم يبين فيه الحكم وكأنه أحاله على ما إذا اختلفا في عقدين فإن كلا يحلف على نفي دعوى الآخر .

                ومنها : إذا قال : كان له علي كذا ، ففي كونه مقرا به خلاف ; لأن الأصل الاستمرار والأصل براءة الذمة ، والأصح أنه ليس بإقرار .

                ومنها : اطلعنا على كافر في دارنا فقال : دخلت بأمان مسلم ، ففي مطالبته بالبينة وجهان لأن الأصل عدم الأمان ، ويعضده : أن الغالب على من يستأمن الاستئناس بالإشهاد ، والأصل حقن الدماء ، ويعضده : أن الظاهر أن الحربي لا يقدم على هذا إلا بأمان هذا هو الأصح .

                ومنها : لو شهد عليه بكلمة الكفر فادعى الإكراه ، فليجدد الإسلام فإن قتله مبادرا قبل التجديد ، ففي الضمان وجهان . قال في الوسيط : مأخوذان من تقابل الأصلين : عدم الإكراه وبراءة الذمة .

                ومنها : طار طائر فقال ، إن لم أصد هذا الطائر اليوم فأنت طالق ، ثم اصطاد ذلك اليوم طائرا وجهل : هل هو ذلك أو غيره ، ففي وقوع الطلاق تردد لتعارض أصلين : بقاء النكاح ، وعدم اصطياده ، ورجح النووي من زوائده عدم الوقوع . ومنها : زاد المقتص في الموضحة وقال : حصلت الزيادة باضطراب الجاني وأنكر [ ص: 72 ] ففي المصدق وجهان في الروضة بلا ترجيح ، لأن الأصل براءة الذمة وعدم الاضطراب : قال ابن الرفعة : وينبغي القطع بتصديق المشجوج ، يعني وهو المقتص لأنه وجد في حقه أصلان : براءة الذمة وعدم الارتعاش ، ولم يوجد في حق الآخر إلا أصل واحد ، بل والظاهر أيضا أن من مسه آلة القصاص يتحرك بالطبع .

                ومنها : ضربها الزوج وادعى نشوزها ، وادعت هي أن الضرب ظلم ، فقد تعارض أصلان : عدم ظلمه ، وعدم نشوزها ، قال ابن الرفعة : لم أر فيها نقلا . قال : والذي يقوى في ظني أن القول قوله ; لأن الشارع جعله وليا في ذلك .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية