الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل .

ألف الشيخ شمس الدين بن الصائغ الحنفي كتابا سماه " إحكام الرأي في أحكام الآي " قال فيه : اعلم أن المناسبة أمر مطلوب في اللغة العربية ، يرتكب لها أمور من مخالفة الأصول . قال : وقد تتبعت الأحكام التي وقعت في آخر الآي مراعاة للمناسبة ، فعثرت منها على نيف عن الأربعين حكما .

أحدها : تقديم المعمول : إما على العامل ، نحو : أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون [ سبإ : 40 ] ، قيل : ومنه : وإياك نستعين [ الفاتحة : 5 ] ، أو على معمول آخر أصله التقديم ، نحو : لنريك من آياتنا الكبرى [ طه : 23 ] ، إذا أعربنا ( الكبرى ) مفعول ( نري ) ، أو على الفاعل ، نحو : ولقد جاء آل فرعون النذر [ القمر : 41 ] ، ومنه تقديم خبر كان على اسمها ، نحو : ولم يكن له كفوا أحد [ الإخلاص : 4 ] .

الثاني : تقديم ما هو متأخر في الزمان ، نحو : فلله الآخرة والأولى [ النجم : 25 ] ، ولولا مراعاة الفواصل لقدمت الأولى كقوله : له الحمد في الأولى والآخرة [ القصص : 70 ] .

الثالث : تقديم الفاضل على الأفضل ، نحو : برب هارون وموسى [ طه : 7 ] ، وتقدم ما فيه .

الرابع : تقديم الضمير على ما يفسره ، نحو : فأوجس في نفسه خيفة موسى [ طه : 67 ] .

الخامس : تقديم الصفة المجملة على الصفة المفردة ، نحو : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا [ الإسراء : 13 ] .

[ ص: 192 ] السادس : حذف ياء المنقوص المعرف ، نحو : الكبير المتعال [ الرعد : 9 ] ، يوم التناد [ غافر : 32 ] .

السابع : حذف ياء الفعل غير المجزوم ، نحو : والليل إذا يسر [ الفجر : 4 ] .

الثامن : حذف ياء الإضافة ، نحو : فكيف كان عذابي ونذر [ القمر : 16 ] ، فكيف كان عقاب [ الرعد : 32 ] .

التاسع : زيادة حرف المد ، نحو : ( الظنونا ) [ الأحزاب : 10 ] ، و ( الرسولا ) [ الأحزاب : 66 ] ، و ( السبيلا ) [ الأحزاب : 67 ] .

ومنه إبقاؤه مع الجازم ، نحو : لا تخاف دركا ولا تخشى [ طه : 77 ] ، سنقرئك فلا تنسى [ الأعلى : 6 ] ، على القول بأنه نهي .

العاشر : صرف ما لا ينصرف ، نحو : قوارير قوارير [ الإنسان : 15 ، 16 ] .

الحادي عشر : إيثار تذكير اسم الجنس كقوله : أعجاز نخل منقعر [ القمر : 20 ] .

الثاني عشر : إيثار تأنيثه ، نحو : أعجاز نخل خاوية [ الحاقة : 7 ] ، ونظير هذين قوله في القمر [ 5 ] : وكل صغير وكبير مستطر وفي الكهف [ 49 ] : لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .

الثالث عشر : الاقتصار على أحد الوجهين الجائزين اللذين قرئ بهما في السبع في غير ذلك ، كقوله تعالى : فأولئك تحروا رشدا [ الجن : 14 ] ، ولم يجئ ( رشدا ) في السبع ، وكذا : وهيئ لنا من أمرنا رشدا [ الكهف : 10 ] ؛ لأن الفواصل في السورتين محركة الوسط ، وقد جاء في : وإن يروا سبيل الرشد [ الأعراف : 146 ] ، وبهذا يبطل ترجيح الفارسي قراءة التحريك بالإجماع عليه فيما تقدم . ونظير ذلك قراءة : تبت يدا أبي لهب وتب [ المسد : 1 ] ، [ ص: 193 ] بفتح الهاء وسكونها ، ولم يقرأ : سيصلى نارا ذات لهب [ المسد : 3 ] . إلا بالفتح لمراعاة الفاصلة .

الرابع عشر : إيراد الجملة التي رد بها ما قبلها على غير وجه المطابقة في الاسمية والفعلية كقوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين [ البقرة : 8 ] . ولم يطابق بين قولهم : آمنا وبين ما رد به فيقول ( ولم يؤمنوا ) أو ( ما آمنوا ) لذلك .

الخامس عشر : إيراد أحد القسمين غير مطابق للآخر كذلك نحو : فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين [ العنكبوت : 3 ] . ولم يقل : الذين كذبوا .

السادس عشر : إيراد أحد جزأي الجملتين على غير الوجه الذي أورد نظيرها من الجملة الأخرى نحو : أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون [ البقرة : 177 ] .

السابع عشر : إيثار أغرب اللفظتين نحو : قسمة ضيزى [ النجم : 22 ] . ولم يقل : جائرة لينبذن في الحطمة ولم يقل " جهنم " أو " النار " .

وقال في المدثر [ 26 ] . سأصليه سقر وفي سأل [ 15 ] . إنها لظى وفي القارعة [ 9 ] . فأمه هاوية لمراعاة فواصل كل سورة .

الثامن عشر : اختصاص كل من المشركين بموضع نحو : وليذكر أولو الألباب [ إبراهيم : 52 ] . وفي سورة طه [ 128 ] . إن في ذلك لآيات لأولي النهى .

التاسع عشر : حذف المفعول نحو : فأما من أعطى واتقى [ الليل : 5 ] . ما ودعك ربك وما قلى ومنه حذف متعلق أفعل التفضيل نحو : يعلم السر وأخفى [ طه : 7 ] . خير وأبقى [ الأعلى : 17 ] .

العشرون : الاستغناء بالإفراد عن التثنية نحو : فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى [ طه : 117 ] .

الحادي والعشرون : الاستغناء به عن الجمع نحو : واجعلنا للمتقين إماما [ الفرقان : 74 ] . ولم يقل : أئمة كما قال وجعلناهم أئمة يهدون [ الأنبياء : 73 ] . [ ص: 194 ] إن المتقين في جنات ونهر [ القمر : 54 ] . أي : أنهار .

الثاني والعشرون : الاستغناء بالتثنية عن الإفراد نحو : ولمن خاف مقام ربه جنتان [ الرحمن : 46 ] . قال الفراء : أراد جنة ، كقوله : فإن الجنة هي المأوى [ النازعات : 41 ] . فثنى لأجل الفاصلة ، قال : والقوافي تحتمل من الزيادة والنقصان ما لا يحتمل سائر الكلام .

ونظير ذلك قول الفراء أيضا في قوله تعالى : إذ انبعث أشقاها [ الشمس : 12 ] . فإنهما رجلان : قدار وآخر معه ، ولم يقل : أشقياها للفاصلة وقد أنكر ذلك ابن قتيبة وأغلظ فيه ، وقال : إنما يجوز في رؤوس الآي زيادة ها السكت أو الألف أو حذف همز أو حرف ، فأما أن يكون الله وعد بجنتين فنجعلهما جنة واحدة لأجل رؤوس الآي معاذ الله ، وكيف هذا وهو يصفها بصفات الاثنين قال ذواتا أفنان ثم قال : " فيهما " [ الرحمن : 48 ، 50 ] .

وأما ابن الصائغ : فإنه نقل عن الفراء أنه أراد جنات فأطلق الاثنين على الجمع لأجل الفاصلة ثم قال : وهذا غير بعيد قال : وإنما عاد الضمير بعد ذلك بصيغة التثنية مراعاة للفظ وهذا هو الثالث والعشرون .

الرابع والعشرون : الاستغناء بالجمع عن الإفراد نحو : لا بيع فيه ولا خلال أي : ولا خلة كما في الآية الأخرى وجمع مراعاة للفاصلة .

الخامس والعشرون : إجراء غير العاقل مجرى العاقل نحو : رأيتهم لي ساجدين [ يوسف : 4 ] . كل في فلك يسبحون [ الأنبياء : 33 ] .

السادس والعشرون : إمالة ما لا يمال كآي " طه " " والنجم " .

السابع والعشرون : الإتيان بصيغة المبالغة : كقدير وعليم مع ترك ذلك في نحو هو القادر [ الأنعام : 65 ] . و عالم الغيب [ الأنعام : 73 ] . ومنه وما كان ربك نسيا [ مريم : 64 ] .

الثامن والعشرون : إيثار بعض أوصاف المبالغة على بعض نحو : إن هذا لشيء عجاب [ ص : 5 ] . أوثر على عجيب لذلك .

التاسع والعشرون : الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه نحو : ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى [ طه : 129 ] .

الثلاثون : إيقاع الظاهر موضع الضمير نحو : والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين [ الأعراف : 170 ] . [ ص: 195 ] وكذا آية الكهف .

الحادي والثلاثون : وقوع ( مفعول ) موقع ( فاعل ) كقوله : حجابا مستورا [ الإسراء : 45 ] . كان وعده مأتيا [ مريم : 61 ] . أي : سائرا وآتيا .

الثاني والثلاثون : وقوع فاعل موقع مفعول نحو : عيشة راضية [ الحاقة : 21 ] . ماء دافق [ الطارق : 6 ] .

الثالث والثلاثون الفصل بين الموصوف والصفة نحو : أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى [ الأعلى : 4 ، 5 ] . إن أعرب أحوى صفة المرعى أي : حالا .

الرابع والثلاثون : إيقاع حرف مكان غيره نحو : بأن ربك أوحى لها [ الزلزلة : 5 ] . والأصل إليها .

الخامس والثلاثون : تأخير الوصف الأبلغ عن الأبلغ منه : الرحمن الرحيم رءوف رحيم [ التوبة : 128 ] . لأن الرأفة أبلغ من الرحمة .

السادس والثلاثون : حذف الفاعل ونيابة المفعول نحو : وما لأحد عنده من نعمة تجزى [ الليل : 19 ] .

السابع والثلاثون : إثبات هاء السكت نحو : ماليه [ الحاقة : 28 ] . سلطانيه [ الحاقة : 29 ] . ما هيه [ القارعة : 10 ] .

الثامن والثلاثون : الجمع بين المجرورات نحو : ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا [ الإسراء : 69 ] . فإن الأحسن الفصل بينها ، إلا أن مراعاة الفاصلة اقتضت عدمه وتأخير تبيعا

التاسع والثلاثون : العدول عن صيغة المضي إلى صيغة الاستقبال نحو : ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون [ البقرة : 87 ] . والأصل قتلتم .

الأربعون : تغيير بنية الكلمة نحو : وطور سينين [ التين : 2 ] . والأصل سينا .

تنبيه : قال ابن الصائغ : لا يمتنع في توجيه الخروج عن الأصل في الآيات المذكورة أمور أخرى مع وجه المناسبة ، فإن القرآن العظيم كما جاء في الأثر : لا تنقضي عجائبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية