الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        إذا أحرم عمرو بما أحرم به زيد جاز . ثم لزيد أحوال .

                                                                                                                                                                        أحدها : أن يكون محرما ، ويمكن معرفة ما أحرم به ، فينعقد لعمرو مثل إحرامه ، إن كان حجا فحج ، وإن كان عمرة فعمرة ، وإن كان قرانا فقران .

                                                                                                                                                                        قلت : وإن كان زيد أحرم بعمرة بنية التمتع كان عمرو محرما بعمرة ، ولا يلزمه التمتع . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        وإن كان مطلقا انعقد إحرام عمرو مطلقا أيضا ، ويتخير كما يتخير زيد ، ولا يلزمه الصرف إلى ما يصرف إليه زيد . وحكي وجه : أنه يلزمه ، وهو شاذ ضعيف . قال في " التهذيب " : إلا إذا أراد إحراما كإحرام زيد بعد تعيينه . وإن كان إحرام زيد فاسدا ، فهل ينعقد إحرام عمرو مطلقا ، أم لا ينعقد أصلا ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        [ ص: 61 ] قلت : الأصح : انعقاده . قال القاضي أبو الطيب : وهذان الوجهان كالوجهين فيمن نذر صلاة فاسدة ، هل ينعقد نذره بصلاة صحيحة ، أم لا ينعقد ؟ والأصح : لا ينعقد . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        وإن كان زيد أحرم مطلقا ، ثم عينه قبل إحرام عمرو ، فوجهان . أصحهما : ينعقد إحرام عمرو مطلقا . والثاني : معينا ، ويجري الوجهان فيما لو أحرم زيد بعمرة ، ثم أدخل عليها الحج ، فعلى الأول : يكون عمرو معتمرا ، وعلى الثاني : قارنا ، والوجهان فيما إذا لم يخطر له التشبيه بإحرام زيد في الحال ، ولا في أوله ، فإن خطر التشبيه بأوله أو بالحال ، فالاعتبار بما خطر بلا خلاف . ولو أخبره زيد بما أحرم به ، ووقع في نفسه خلافه ، فهل يعمل بخبره ، أو بما وقع في نفسه ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما : بخبره . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ولو قال له : أحرمت بالعمرة ، فعمل بقوله ، فبان أنه كان محرما بالحج ، فقد بان أن إحرام عمرو كان منعقدا بحج . فإن فات الوقت ، تحلل وأراق دما . وهل الدم في ماله ، أو مال زيد ، للتغرير ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما : في ماله . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : أن لا يكون زيد محرما أصلا ، فينظر إن كان عمرو جاهلا به انعقد إحرامه مطلقا ؛ لأنه جزم بالإحرام . وإن كان عالما بأنه غير محرم ، بأن علم موته ، فطريقان . المذهب الذي قطع به الجمهور : أنه ينعقد إحرام عمرو مطلقا . والثاني : على الوجهين . أصحهما : هذا . والثاني : لا ينعقد أصلا ، كما لو قال : إن كان زيد محرما ، فقد أحرمت ، فلم يكن محرما . والصواب : الأول . ويخالف قوله : إن كان زيد محرما ، فإنه تعليق لأصل الإحرام . فلهذا يقول : إن كان زيد محرما ، فهذا المعلق محرم ، وإلا فلا .

                                                                                                                                                                        [ ص: 62 ] وأما هنا فأصل الإحرام محزوم به . واحتجوا للمذهب بصورتين نص عليهما في " الأم " .

                                                                                                                                                                        أحدهما : لو استأجره رجلان ليحج عنهما ، فأحرم عنهما ، لم ينعقد عن واحد منهما ، وانعقد عن الأجير ؛ لأن الجمع بينهما متعذر ، فلغت الإضافة ، وسواء كانت الإجارة في الذمة ، أم على العين ؛ لأنه وإن كانت إحدى إجارتي العين فاسدة إلا أن الإحرام عن غيره لا يتوقف على صحة الإجارة .

                                                                                                                                                                        الصورة الثانية : لو استأجره رجل ليحج عنه ، فأحرم عن نفسه وعن المستأجر لغت الإضافتان ، وبقي الإحرام للأجير . فلما لغت الإضافة في الصورتين ، وبقي أصل الإحرام ، جاز أن يلغو هنا التشبيه ، ويبقى أصل الإحرام .

                                                                                                                                                                        الحال الثالث : أن يكون زيد محرما وتتعذر مراجعته ، لجنون ، أو غيبة ، أو موت . ولهذه المسألة مقدمة ، وهي لو أحرم بأحد النسكين ، ثم نسيه ، قال في القديم : أحب أن يقرن . وإن تحرى ، رجوت أن يجزئه . وقال في الجديد : هو قارن . وللأصحاب فيه طريقان . أحدهما : القطع بجواز التحري . وتأويل الجديد على ما إذا شك ، هل أحرم بأحد النسكين ، أم قرن ؟ وأصحهما وبه قطع الجمهور : أن المسألة على قولين . القديم : جواز التحري ، ويعمل بظنه . والجديد : لا يتحرى . فإن قلنا بالقديم فتحرى ، مضى فيما ظنه من النسكين ، وأجزأه على الصحيح . وقيل : لا يجزئه الشك . وفائدة التحري : الخلاص من الإحرام ، وهذا شاذ ضعيف . وإن قلنا بالجديد ، فللشك صورتان .

                                                                                                                                                                        إحداهما : أن يعرض قبل الإتيان بشيء من الأعمال ، فلفظ النص : أنه قارن . وقال الأصحاب : معناه : أن ينوي القران ، ويجعل نفسه قارنا . وحكي قول أنه يصير قارنا بلا نية ، وهو شاذ ضعيف . ثم إذا نوى القران وأتى بالأعمال ، [ ص: 63 ] تحلل وبرئت ذمته عن الحج بيقين ، وأجزأه عن حجة الإسلام ؛ لأنه إن كان محرما بالحج ، لم يضر تجديد العمرة بعده ، سواء قلنا : يصح إدخالها عليه ، أم لا . وإن كان محرما بالعمرة ، فإدخال الحج عليها قبل الشروع في أعمالها ، جائز . وأما العمرة ، فإن جوزنا إدخالها على الحج ، أجزأته عن عمرة الإسلام ، وإلا فوجهان . أصحهما : لا تجزئه ، لاحتمال تأخر العمرة . والثاني : تجزئه ، قاله أبو إسحاق .

                                                                                                                                                                        ويكون الاشتباه عذرا في جواز تأخيرها . فإن قلنا : تجزئ ، لزمه دم القران ، فإن لم يجد ، صام عشرة أيام ، ثلاثة في الحج ، وسبعة إذا رجع . وإن قلنا : لا تجزئه العمرة ، لم يجب الدم على الأصح . وقولنا : يجعل نفسه قارنا ، ليس على سبيل الإلزام .

                                                                                                                                                                        قال الإمام : لم يذكر الشافعي - رحمة الله عليه - القران على معنى أنه لا بد منه ، بل ذكره على أنه ليستفيد منه الشاك التحلل مع براءة الذمة من النسكين . فلو اقتصر بعد النسيان على الإحرام بالحج ، وأتى بأعماله حصل التحلل قطعا ، وتبرأ ذمته عن الحج ، ولا تبرأ عن العمرة ، لاحتمال أنه أحرم ابتداء بالحج . وعلى هذا القياس : لو اقتصر على الإحرام بالعمرة ، وأتى بأعمال القران ، حصل التحلل ، وبرئت ذمته من العمرة إن جوزنا إدخالها على الحج ، ولا تبرأ عن الحج ، لاحتمال أنه أحرم ابتداء ولم يغيرها . ولو لم يجدد إحراما بعد النسيان ، واقتصر على الإتيان بعمل الحج ، حصل التحلل ، ولا تبرأ ذمته عن واحد من النسكين ، لشكه فيما أتى به . ولو اقتصر على عمل العمرة ، لم يحصل التحلل ؛ لاحتمال أنه أحرم بالحج ولم يتم أعماله .

                                                                                                                                                                        الصورة الثانية : [ أن ] يعرض الشك بعد الإتيان بشيء من الأعمال ، وله أحوال .

                                                                                                                                                                        أحدها : أن يعرض بعد الوقوف بعرفة ، وقبل الطواف ، فإذا نوى القران ، فيجزئه الحج ؛ لأنه إن كان محرما به ، فذاك . وإن كان بالعمرة ، فقد أدخله عليها قبل الطواف [ ص: 64 ] ، وذلك جائز . ولا تجزئه العمرة إذا قلنا بالمذهب : إنه لا يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف وقبل الشروع في التحلل . وهذا الحال مفروض فيما إذا كان وقت الوقوف باقيا عند مصيره قارنا ثم وقف ثانيا ، وإلا فيحتمل أنه كان محرما بالعمرة ، فلا يجزئه ذلك الوقوف عن الحج .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : أن يعرض بعد الطواف وقبل الوقوف ، فإذا نوى القران ، وأتى بأفعال القارن لم يجزئه الحج ؛ لاحتمال أنه كان محرما بالعمرة ، فيمتنع إدخال الحج عليها بعد الطواف .

                                                                                                                                                                        وأما العمرة ، فإن قلنا بجواز إدخالها على الحج بعد الطواف ، أجزأته وإلا فلا وهو المذهب . وذكر ابن الحداد في هذه الحال أنه يتم أعمال العمرة ، بأن يصلي ركعتي الطواف ، ويسعى ، ويحلق أو يقصر ، ثم يحرم بالحج ، ويأتي بأعماله . فإذا فعل هذا صح حجه ؛ لأنه إن كان محرما بالحج ، لم يضر تجديد إحرامه . وإن كان بالعمرة ، فقد تمتع ، ولا تصح عمرته لاحتمال أنه كان محرما بالحج ، ولا تدخل العمرة عليه إذا لم ينو القران . قال الشيخ أبو زيد ، وصاحب " التقريب " والأكثرون : إن فعل هذا ، فالجواب ما ذكره . لكن لو استفتانا ، لم نفته به ؛ لاحتمال أنه كان محرما بالحج وإن كان هذا الحلق يقع في غير أوانه . وهذا كما لو ابتلعت دجاجة إنسان جوهرة لغيره ، لا يفتى صاحب الجوهرة بذبحها وأخذ الجوهرة . فلو ذبح لم يلزمه إلا قدر التفاوت بين قيمتها حية ومذبوحة ، وكذا لو تقابلت دابتان لشخصين على شاهق ، وتعذر مرورهما ، لا يفتى أحدهما بإهلاك دابة الآخر ، لكن لو فعل خلص دابته ، ولزمه قيمة دابة صاحبه ، واختار الغزالي قول ابن الحداد . ووجهه الشيخ أبو علي : بأن الحلق في غير وقته يباح بالعذر ، كمن به أذى من رأسه ، فضرر الاشتباه لو لم يحلق أكثر فإنه يفوت الحج ، وسواء أفتيناه بما قاله [ ص: 65 ] ابن الحداد ، أم لم نفته ، ففعل لزمه دم ؛ لأنه إن كان محرما بحج ، فقد حلق في غير وقته ، وإن كان بعمرة ، فقد تمتع ، فيريق دما عن الواجب عليه ، ولا يعين الجهة كما في الكفارة . فإن كان معسرا لا يجد دما ولا طعاما صام عشرة أيام كصوم المتمتع . فإن كان الواجب دم المتمتع ، فذاك وإن كان دم الحلق أجزأه ثلاثة أيام ، الباقي تطوع . ولا يعين الجهة في صوم الثلاثة ، ويجوز تعيين التمتع في صوم السبعة . ولو اقتصر على صوم ثلاثة ، هل تبرأ ذمته ؟ مقتضى كلام الشيخ أبي علي : أنه لا تبرأ .

                                                                                                                                                                        قال الإمام : ويحتمل أن تبرأ ، وعبر الغزالي في " الوسيط " عن هذين بوجهين . ويجزئه الصوم مع وجود الطعام ؛ لأنه لا مدخل للطعام في التمتع . وفدية الحلق على التخيير . ولو أطعم ، هل تبرأ ذمته ؟ فيه كلاما الشيخ والإمام . هذا كله إذا استجمع الرجل شروط وجوب دم التمتع ، فإن لم يستجمعها ، كالمكي ، لم يجب الدم ؛ لأن دم التمتع مفقود ، والأصل عدم الحلق . وإذا جوز أن يكون إحرامه أولا بالقران ، فهل يلزمه دم آخر مع الدم الذي وصفناه ؟ فيه الوجهان السابقان .

                                                                                                                                                                        الحال الثالث : أن يعرض الشك بعد الطواف والوقوف . فإن أتى ببقية أعمال الحج ، لم يحصل له حج ولا عمرة . أما الحج ، فلجواز أنه كان محرما بعمرة ، فلا ينفعه الوقوف . وأما العمرة ، فلجواز أنه كان محرما بحج ، ولم يدخل عليه العمرة . فإن نوى القران ، ولبى ، وأتى بأعمال القران ، فإجزاء العمرة يبنى على أنها هل تدخل على الحج بعد الوقوف ؟ ثم قياس المذكور في الحال السابق . ثم لو أتم أعمال العمرة ، وأحرم بالحج ، وأتى بأعماله مع الوقوف ، أجزأه الحج ، وعليه دم كما سبق . ولو أتم أعمال الحج ، ثم أحرم بعمرة ، وأتى بأعمالها ، أجزأته العمرة .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية