الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن خرج من المسجد ناسيا لم يبطل اعتكافه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } [ ص: 550 ] ولأنه لو أكل في الصوم ناسيا لم يبطل فكذلك إذا خرج من الاعتكاف ناسيا لم يبطل ، وإن خرج مكرها محمولا لم يبطل اعتكافه للخبر ، ولأنه لو أوجر الصائم في فيه طعاما لم يبطل صومه فكذلك هذا ، فإن أكرهه حتى خرج بنفسه ففيه قولان كالصائم إذا أكره حتى أكل بنفسه ، وإن أخرجه السلطان لإقامة الحد عليه فإن كان قد ثبت الحد بإقراره بطل اعتكافه ، لأنه خرج باختياره وإن ثبت بالبينة ففيه وجهان ( أحدهما ) يبطل ; لأنه اختار سببه وهو الشرب والسرقة ( والثاني ) لا يبطل ; لأنه لم يشرب ولم يسرق ، ليخرج ويقام عليه الحد وإن خاف من ظالم فخرج واستتر لم يبطل اعتكافه ; لأنه مضطر إلى الخروج بسبب هو معذور فيه فلم يبطل اعتكافه ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذا الحديث حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما ، ولفظهما عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } .

                                      ( أما الأحكام ) ففي الفصل مسائل : ( إحداها ) إذا خرج من المسجد ناسيا للاعتكاف لم يبطل ; لما ذكره المصنف هذا هو المذهب ، وبه قطع الجمهور . قال الرافعي : وقيل في بطلانه قولان قال : ( فإن قلنا ) لا يبطل فلم يتذكر إلا بعد طول الزمان فوجهان ، كما لو أكل كثيرا ناسيا ذكر الوجهين أيضا المتولي وغيره ، والأصح أنه لا يبطل .

                                      ( الثانية ) لو حمل مكرها فأخرج لم يبطل اعتكافه ; لما ذكره المصنف ، هذا هو المذهب ، وبه قطع الجمهور ، قال الرافعي : وقيل في بطلانه قولان كالمكره ; لأنه فارق المسجد بعذر ، وإن أكره حتى خرج بنفسه فطريقان ( أصحهما ) فيه قولان كالإكراه على الأكل في الصوم ( أصحهما ) لا يبطل اعتكافه ( والثاني ) يبطل . والطريق الثاني : لا يبطل قولا واحدا . ولو خاف المعتكف من ظالم فخرج واستتر ففي بطلان اعتكافه قولان كالمكره ( أصحهما ) لا يبطل ، وممن أنكر القولين فيه البغوي والرافعي وآخرون ، وأنكر جماعة على [ ص: 551 ] المصنف كونه جزم في مسألة الخائف من ظالم بأنه لا يبطل وذكر في المكره القولين مع أن حكمهما جميعا سواء وهذا الإنكار وإن كان متجها فجوابه أنه فرع مسألة الظالم على الأصح واقتصر عليه قال البغوي : ولو خاف من شيء آخر غير الظالم فخرج ففيه القولان ومراده إذا خاف من حية أو حريق أو انهدام ونحو ذلك ( فأما ) إذا خاف ممن يطالبه بحق واجب عليه فهو ظالم بالتغيب ، عنه فإذا خرج بطل اعتكافه قولا واحدا ، وإن خاف ممن عليه دين وهو عاجز عنه فخرج ، ففيه القولان كالمكره ; لأن مطالبته حينئذ حرام ، فهو خارج للخوف من ظالم ، والله أعلم .

                                      ( الثالثة ) إذا أخرجه السلطان ، قال الشافعي في المختصر : إذا خلاه السلطان عاد إلى المسجد وبنى ، قال أصحابنا : إذا أخرجه فله ثلاثة أحوال : ( أحدها ) أن يكون السلطان محقا في إخراجه فأخرجه لغير عقوبة بأن وجب عليه حق وهو يماطل به مع قدرته عليه ، أو يمتنع من أدائه فيبطل اعتكافه ، بلا خلاف ; لأنه مقصر وخارج باختياره في الحقيقة .

                                      ( الثاني ) أن يكون السلطان ظالما له في إخراجه بأن أخرجه لمصادرة أو نحوها مما ليس عليه أو لدين عاجز عنه ونحو ذلك ، لم يبطل اعتكافه على المذهب وبه قطع الشيخ أبو حامد والماوردي والمحاملي وابن الصباغ والجمهور .

                                      ( وقيل ) هو كالمكره فيكون فيه القولان ، وبهذا جزم البغوي والمتولي والرافعي ، ولعل الأولين فرعوه على المذهب ، وهو أنه لا يبطل .

                                      ( الثالث ) أن يخرجه ليقيم عليه عقوبة شرعية من حد أو قصاص أو تعزير فإن ثبت ذلك عليه بإقراره بطل اعتكافه ، لما ذكره المصنف ، وإن ثبت بالبينة ، فنص الشافعي أنه لا يبطل ولا ينقطع به تتابعه فإذا عاد بنى ، وللأصحاب طريقان ( أصحهما ) لا يبطل تتابعه قولا واحدا [ ص: 552 ] كما نص عليه ، وبهذا قطع الماوردي والقاضي أبو الطيب في المجرد والمحاملي وابن الصباغ وجمهور العراقيين .

                                      ( والثاني ) فيه وجهان ( أصحهما ) لا يبطل تتابعه ، وبهذا الطريق قطع المصنف والبغوي والمتولي وغيرهم ، وهذا الذي ذكرناه من الفرق بين أن يثبت الحد بالإقرار أو البينة صحيح ، كما ذكره المصنف ، وقد ذكره أيضا البغوي والرافعي وغيرهما ، وأشار صاحب البيان إلى أن المصنف كالمنفرد بهذا التفصيل ، وأن الأكثرين جزموا بأنه لا يبطل اعتكافه إذا أخرجه السلطان لإقامة الحد ، ولم يتعرضوا للفرق بين الثبوت بإقرار أو بينة ، وهذا الذي أشار إليه صاحب البيان ضعيف ، فقد ذكر التفصيل غير المصنف كما سبق ، وأما الأكثرون فكلامهم محمول على ما إذا ثبت بإقرار ، والله أعلم . .



                                      ( فرع ) قال الشافعي في الأم : إذا نذر اعتكافا ثم دخل مسجدا فاعتكف فيه ثم انهدم المسجد ، فإن أمكنه أن يقيم فيه أقام حتى يتم اعتكافه ، وإن لم يمكنه خرج ، فإذا بني المسجد عاد وتمم اعتكافه ، هذا نصه ، قال أصحابنا : إن بقي موضع يمكن الإقامة فيه أقام ولا يجوز أن يخرج إن كان اعتكافا منذورا ، وإن لم يبق منه موضع تمكن الإقامة فيه خرج فأتم اعتكافه في غيره من المسجد ، ولا يبطل اعتكافه بالخروج ; لأنه لحاجة . قال أصحابنا : وأما قول الشافعي : فإذا بني المسجد عاد وتمم اعتكافه ، فله تأويلان ( أحدهما ) أنه عين المسجد الحرام أو مسجد المدينة والأقصى ، وقلنا : يتعين .

                                      ( والثاني ) مراده إذا نذر اعتكافا غير متتابع ولا متعلق بزمان معين ، فإذا انهدم فله الخيار إن شاء انتظر بناءه ، وإن شاء اعتكف في غيره .

                                      ( والثالث ) مراده إذا كان في قرية ليس فيها إلا مسجد واحد وانهدم .

                                      ( والرابع ) حكاه صاحب الشامل أنه قاله للاستحباب ، لأنه يستحب أن يعتكف في المسجد الذي نذر فيه . .




                                      الخدمات العلمية