الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون

"أي": استفهام؛ وهي معربة مع إبهامها؛ وإنما كان ذلك لأنها تلتزم الإضافة؛ ولأنها تتضمن علم جزء من المستفهم عنه غير معين؛ لأنك إذا قلت: "أي الرجلين جاءنا؟"؛ فقد كنت تعلم أن أحدهما جاء؛ غير معين؛ فأخرجها هذان الوجهان عن غمرة الإبهام فأعربت.

وتتضمن هذه الآية أن الله - عز وجل - يقال عليه: "شيء"؛ كما يقال عليه: "موجود"؛ ولكن ليس كمثله - تبارك وتعالى - شيء.

و"شهادة"؛ نصب على التمييز؛ ويصح على المفعول؛ بأن يحمل "أكبر" على التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل.

وهذه الآية مثل قوله تعالى قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله ؛ في أن استفهم على جهة التوقيف؛ والتقرير؛ ثم بادر إلى الجواب؛ إذ لا تتصور فيه مدافعة؛ وهذا كما تقول لمن تخاصمه؛ وتتظلم منه: "من أقدر من في البلد؟"؛ ثم تبادر وتقول: "السلطان؛ فهو يحول بيننا"؛ ونحو هذا من الأمثلة؛ فتقدير الآية أنه قال لهم: "أي شيء أكبر [ ص: 330 ] شهادة؟ الله أكبر شهادة؛ فهو شهيد بيني وبينكم"؛ فـ "الله"؛ رفع بالابتداء؛ وخبره مضمر؛ يدل عليه ظاهر الكلام؛ كما قدرناه؛ و"شهيد"؛ خبر ابتداء مضمر.

وقال مجاهد : المعنى أن الله تعالى قال لنبيه - عليه الصلاة والسلام -: "قل لهم: أي شيء أكبر شهادة؟ وقل لهم: الله شهيد بيني وبينكم؛ لما عيوا عن الجواب"؛ فـ "شهيد"؛ على هذا التأويل خبر لـ "الله"؛ وليس في هذا التأويل مبادرة من السائل إلى الجواب المراد بقوله: شهيد بيني وبينكم ؛ أي: في تبليغي.

وقرأت فرقة: "وأوحى إلي هذا القرآن"؛ على الفعل الماضي؛ ونصب "القرآن"؛ وفي "وأوحى"؛ ضمير عائد على الله تعالى ؛ من قوله: قل الله ؛ وقرأت فرقة: "وأوحي"؛ على بناء الفعل للمفعول؛ "القرآن"؛ رفعا.

"لأنذركم"؛ معناه: لأخوفكم به العقاب؛ والآخرة؛ و"ومن"؛ عطف على الكاف والميم في قوله: "لأنذركم"؛ "وبلغ"؛ معناه - على قول الجمهور -: بلاغ القرآن؛ أي: لأنذركم؛ وأنذر من بلغه؛ ففي "بلغ"؛ ضمير محذوف؛ لأنه في صلة "ومن"؛ فحذف لطول الكلام؛ وقالت فرقة: "ومن بلغ الحلم"؛ ففي "بلغ" - على هذا التأويل - ضمير مقدر راجع إلى "ومن".

وروي في معنى التأويل الأول أحاديث؛ منها أن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - قال: "يا أيها الناس؛ بلغوا عني ولو آية؛ فإنه من بلغ آية من كتاب الله تعالى فقد بلغه أمر الله تعالى أخذه أو تركه"؛ ونحو هذا من الأحاديث؛ كقوله - صلى اللـه عليه وسلم -: "من بلغه هذا القرآن فأنا نذيره".

[ ص: 331 ] وقرأت فرقة: "آينكم"؛ بزيادة ألف بين الهمزة الأولى والثانية المسهلة؛ عاملة بعد هذا التسهيل المعاملة قبل التسهيل؛ وقرأت فرقة: "أينكم"؛ بهمزتين؛ الثانية مسهلة؛ دون ألف بينهما؛ وقرأت فرقة: "آئنكم"؛ استثقلت اجتماع الهمزتين؛ فزادت ألفا بين الهمزتين؛ وقرأت فرقة: "إنكم"؛ بالإيجاب؛ دون تقدير.

وهذه الآية مقصدها التوبيخ؛ وتسفيه الرأي.

و"أخرى"؛ صفة لـ "آلهة"؛ وصفة جمع ما لا يعقل تجرى في الإفراد مجرى الواحدة المؤنثة؛ كقوله: "مآرب أخرى"؛ وكذلك مخاطبته جمع ما لا يعقل؛ كقوله: يا جبال أوبي معه ؛ ونحو هذا؛ ولما كانت هذه الآلهة حجارة؛ وعيدانا؛ أجريت هذا المجرى.

ثم أمره الله تعالى بالتبري من شهادتهم؛ والإعلان بالتوحيد لله - تبارك وتعالى -؛ والتبري من إشراكهم.

و"وإنني"؛ إيجاب ألحق فيه النون التي تلحق الفعل؛ لتبقى حركته عند اتصال الضمير به؛ في قولك: "وضربني"؛ ونحوه.

وظاهر الآية أنها في عبدة الأصنام؛ وذكر الطبري أنه قد ورد من وجه لم تثبت صحته أنها نزلت في قوم من اليهود؛ وأسند إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جاء النحام بن زيد؛ وقردم بن كعب ؛ وبحري بن عمير؛ فقالوا: يا محمد؛ ما تعلم مع الله إلها غيره؟ فقال - صلى اللـه عليه وسلم - لهم: "لا إله إلا الله؛ بذلك أمرت"؛ فنزلت الآية فيهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية