الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 39 ] ثم قال تعالى : ( وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            لما فرغ من الإشارة إلى حكاية نوح ذكر حكاية إبراهيم وفي إبراهيم وجهان من القراءة :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : النصب وهو المشهور .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : الرفع على معنى : ومن المرسلين إبراهيم .

                                                                                                                                                                                                                                            والأول : فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه منصوب بفعل غير مذكور ، وهو معنى : ذكر إبراهيم .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه منصوب بمذكور وهو قوله : ( ولقد أرسلنا ) فيكون كأنه قال وأرسلنا إبراهيم ، وعلى هذا ففي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قوله : ( إذ قال لقومه ) ظرف أرسلنا أي أرسلنا إبراهيم إذ قال لقومه ، لكن قوله : ( لقومه اعبدوا الله ) دعوة ، والإرسال يكون قبل الدعوة فكيف يفهم قوله وأرسلنا إبراهيم حين قال لقومه مع أنه يكون مرسلا قبله ؟ نقول : الجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن الإرسال أمر يمتد ، فهو حال قوله لقومه اعبدوا الله كان مرسلا ، وهذا كما يقول القائل : وقفنا للأمير إذ خرج من الدار ، وقد يكون الوقوف قبل الخروج ، لكن لما كان الوقوف ممتدا إلى ذلك الوقت صح ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : هو أن إبراهيم بمجرد هداية الله إياه كان يعلم فساد قول المشركين ، وكان يهديهم إلى الرشاد قبل الإرسال ، ولما كان هو مشتغلا بالدعاء إلى الإسلام أرسله الله تعالى ، وقوله : ( اعبدوا الله واتقوه ) إشارة إلى التوحيد ؛ لأن التوحيد إثبات الإله ، ونفي غيره فقوله : ( اعبدوا الله ) إشارة إلى الإثبات ، وقوله : ( واتقوه ) إشارة إلى نفي الغير ؛ لأن من يشرك مع الملك غيره في ملكه يكون قد أتى بأعظم الجرائم ، ويمكن أن يقال : ( اعبدوا الله ) إشارة إلى الإتيان بالواجبات ، وقوله : ( واتقوه ) إشارة إلى الامتناع عن المحرمات ويدخل في الأول الاعتراف بالله ، وفي الثاني الامتناع من الشرك ، ثم قوله : ( ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) يعني : عبادة الله وتقواه خير ، والأمر كذلك لأن خلاف عبادة الله تعالى تعطيل ، وخلاف تقواه تشريك ، وكلاهما شر عقلا واعتبارا ، أما عقلا فلأن الممكن لا بد له من مؤثر لا يكون ممكنا قطعا للتسلسل ، وهو واجب الوجود فلا تعطيل إذ لنا إله ، وأما التشريك فبطلانه عقلا وكون خلافه خيرا وهو أن شريك الواجب إن لم يكن واجبا فكيف يكون شريكا ، وإن كان واجبا لزم وجود واجبين فيشتركان في الوجوب ويتباينان في الإلهية ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيلزم التركيب فيهما فلا يكونان واجبين لكونهما مركبين فيلزم التعطيل ، وإما اعتبارا فلأن الشرف لن يكون ملكا أو قريب ملك ، لكن الإنسان لا يكون ملكا للسموات والأرضين فأعلى درجاته أن يكون قريب الملك لكن القربة بالعبادة كما قال تعالى : ( واسجد واقترب ) (العلق : 19 ) وقال : " لن يتقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم " وقال : " لا يزال العبد يتقرب بالعبادة إلي " فالمعطل لا ملك ولا قريب ملك لعدم اعتقاده بملك فلا مرتبة له أصلا ، وأما التشريك فلأن من يكون سيده لا نظير له يكون أعلى رتبة ممن يكون سيده له شركاء خسيسة ، فإذن من يقول إن ربي لا يماثله شيء أعلى مرتبة ممن يقول سيدي صنم منحوت عاجز مثله ، فثبت أن عبادة الله وتقواه خير وهو خير لكم أي خير للناس إن كانوا يعلمون ما ذكرناه من الدلائل والاعتبارات.

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية