الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير )

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير )

                                                                                                                                                                                                                                            لما ذكر النشأة الآخرة ذكر ما يكون فيه وهو تعذيب أهل التكذيب عدلا وحكمة ، وإثابة أهل الإنابة فضلا ورحمة ، وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أن رحمته سابقة كما قال عليه السلام [ ص: 44 ] حاكيا عنه " سبقت رحمتي غضبي " فنقول ذلك لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن السابق ذكر الكفار ، فذكر العذاب لسبق ذكر مستحقيه بحكم الإيعاد وعقبه بالرحمة ، وكما ذكر بعد إثبات الأصل الأول وهو التوحيد ، التهديد بقوله : ( وإن تكذبوا فقد كذب أمم ) وأهلكوا بالتكذيب ، كذلك ذكر بعد إثبات الأصل الآخر التهديد بذكر التعذيب ، وذكر الرحمة وقع تبعا لئلا يكون العذاب مذكورا وحده وهذا يحقق قوله : ( سبقت رحمتي غضبي ) وذلك لأن الله حيث كان المقصود ذكر العذاب لم يمحضه في الذكر بل ذكر الرحمة معه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية :إذا كان ذكر هذا لتخويف العاصي وتفريح المؤمن فلو قال : يعذب الكافر ويرحم المؤمن لكان أدخل في تحصيل المقصود ، وقوله : ( يعذب من يشاء ) لا يزجر الكافر لجواز أن يقول لعلي لا أكون ممن يشاء الله عذابه ، فنقول : هذا أبلغ في التخويف ، وذلك لأن الله أثبت بهذا إنفاذ مشيئته إذا أراد تعذيب شخص فلا يمنعه منه مانع ، ثم كان من المعلوم للعباد بحكم الوعد والإيعاد أنه شاء تعذيب أهل العناد ، فلزم منه الخوف التام بخلاف ما لو قال يعذب العاصي ، فإنه لا يدل على كمال مشيئته ، لأنه لا يفيد أنه لو شاء عذاب المؤمن لعذبه ، فإذا لم يفد هذا فيقول الكافر إذا لم يحصل مراده في تلك الصورة يمكن أن يحصل في صورة أخرى ، ولنضرب له مثلا فنقول : إذا قيل : إن الملك يقدر على ضرب كل من في بلاده وقال : من خالفني أضربه ، يحصل الخوف التام لمن يخالفه ، وإذا قيل أنه قادر على ضرب المخالفين ولا يقدر على ضرب المطيعين ، فإذا قال : من خالفني أضربه يقع في وهم المخالف أنه لا يقدر على ضرب فلان المطيع ، فلا يقدر علي أيضا لكوني مثله ، وفي هذا فائدة أخرى وهو الخوف العام والرجاء العام ، لأن الأمن الكلي من الله يوجب الجراءة فيفضي إلى صيرورة المطيع عاصيا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال : ( وإليه تقلبون ) مع أن هذه المسألة قد سبق إثباتها وتقريرها فلم أعادها ؟ فنقول لما ذكر الله التعذيب والرحمة وهما قد يكونان عاجلين ، فقال تعالى : فإن تأخر عنكم ذلك فلا تظنوا أنه فات ، فإن إليه إيابكم ، وعليه حسابكم وعنده يدخر ثوابكم وعقابكم ، ولهذا قال بعدها ( وما أنتم بمعجزين ) يعني لا تفوتون الله بل الانقلاب إليه ولا يمكن الانفلات منه ، وفي تفسير هذه الآية لطائف .

                                                                                                                                                                                                                                            إحداها : هي إعجاز المعذب عن التعذيب ، إما بالهرب منه ، أو الثبات له والمقاومة معه للدفع ، وذكر الله القسمين فقال : ( وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء ) يعني بالهرب لو صعدتم إلى محل السماك في السماء أو هبطتم إلى موضع السموك في الماء لا تخرجون من قبضة قدرة الله فلا مطمع في الإعجاز بالهرب ، وأما بالثبات فكذلك لأن الإعجاز إما أن يكون بالاستناد إلى ركن شديد يشفع ولا يمكن للمعذب مخالفته ، فيفوته المعذب ويعجز عنه ، أو بالانتصار بقوم يقوم معه بالدفع وكلاهما محال ، فإنكم ما لكم من دون الله ولي يشفع ولا نصير يدفع ، فلا إعجاز لا بالهروب ولا بالثبات .

                                                                                                                                                                                                                                            الثانية : قال : ( وما أنتم بمعجزين ) ولم يقل لا تعجزون بصيغة الفعل ، وذلك لأن نفي الفعل لا يدل على نفي الصلاحية ، فإن من قال إن فلانا لا يخيط لا يدل على ما يدل عليه قوله إنه ليس بخياط .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالثة : قدم الأرض على السماء ، والولي على النصير ، لأن هربهم الممكن في الأرض ، فإن كان يقع منهم هرب يكون في الأرض ، ثم إن فرضنا لهم قدرة غير ذلك فيكون لهم صعود في السماء ، وأما الدفع فإن العاقل ما أمكنه الدفع بأجمل الطرق فلا يرتقي إلى غيره ، والشفاعة أجمل . ولأن ما من أحد في الشاهد إلا ويكون له شفيع يتكلم في حقه عند ملك ، ولا يكون كل أحد له ناصر يعادي الملك لأجله .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية