الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة .

استئناف أو حال من ضمير أحصوا العدة ، أي حالة كون العدة في بيوتهن ، ويجوز أن تكون بدل اشتمال من مضمون جملة أحصوا العدة لأن مكثهن في بيوتهن في مدة العدة يحقق معنى إحصاء العدة .

ولكلا الوجهين جردت الجملة عن الاقتران بالواو وجوازا أو وجوبا .

وفي إضافة البيوت إلى ضمير النساء إيماء إلى أنهن مستحقات المكث في البيوت مدة العدة بمنزلة مالك الشيء وهذا ما يسمى في الفقه ملك الانتفاع دون العين ولأن بقاء المطلقات في البيوت اللاتي كن فيها أزواجا استصحاب لحال الزوجية إذ الزوجة هي المتصرفة في بيت زوجها ولذلك يدعوها العرب ( ربة البيت ) وللمطلقة حكم الزوجة ما دامت في العدة إلا في استمتاع المطلق .

وهذا الحكم سببه مركب من قصد المكارمة بين المطلق والمطلقة . وقصد الانضباط في علة الاعتداد تكميلا لتحقق لحاق ما يظهر من حمل بأبيه المطلق حتى يبرأ النسب من كل شك

وجملة ولا يخرجن عطف على جملة لا تخرجوهن وهو نهي لهن عن الخروج فإن المطلق قد يخرجها فترغب المطلقة في الخروج لأنها تستثقل البقاء في بيت زالت عنه سيادتها فنهاهن الله عن الخروج . فإذا كان البيت مكترى سكنته المطلقة وكراؤه على المطلق وإذا انتهى أمد كرائه فعلى المطلق تجديده إلى انتهاء عدة المطلقة .

وهذا الترتب بين الجملتين يشعر بالسببية وأن لكل امرأة معتدة حق السكنى في بيت زوجها مدة العدة لأنها معتدة لأجله أي لأجل حفظ نسبه وعرضه فهذا [ ص: 300 ] مقتضى الآية . ولذلك قال مالك وجمهور العلماء بوجوب السكنى للمطلقة المدخول بها سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا وقال ابن أبي ليلى : لا سكنى إلا للمطلقة الرجعية ، وعلل وجوب الإسكان للمطلقة المدخول بها بعدة أمور : حفظ النسب ، وجبر خاطر المطلقة وحفظ عرضها . وسيجيء في هذه السورة قوله تعالى أسكنوهن من حيث سكنتم الآية . وتعلم أن ذلك تأكيد لما في هذه الآية من وجوب الإسكان في العدة أعيد ليبين عليه قوله ( من وجدكم ) وما عطف عليه .

والاستثناء في قوله ( إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) يحتمل أن يرجع إلى الجملتين اللتين قبله كما هو الشأن فيه إذا ورد بعد جمل على أصح الأقوال لعلماء الأصول . ويحتمل أن يرجع إلى الأخيرة منهما وهو مقتضى كونه موافقا لضميرها إذ كان الضمير في كلتيهما ضمير النسوة . وهو استثناء من عموم الأحوال التي اقتضاها عموم الذوات في قوله لا تخرجوهن ولا يخرجن . فالمعنى : إلا أن يأتين بفاحشة فأخرجوهن أو ليخرجن ، أي يباح لكم إخراجهن وليس لهن الامتناع من الخروج وكذلك عكسه .

والفاحشة : الفعلة الشديدة السوء بهذا غلب إطلاقها في عرف اللغة فتشمل الزنا كما في قوله تعالى ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ) الآية في سورة النساء .

وشمل غيره من الأعمال ذات الفساد كما في قوله وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا . وقوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن في سورة الأعراف . قال ابن عطية : قال بعض الناس : الفاحشة متى وردت في القرآن معرفة فهي الزنا ( يريد أو ما يشبهه ) كما في قوله ( أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ) ومتى وردت منكرة فهي المعاصي .

وقرأ الجمهور ( مبينة ) بكسر الياء التحتية ، أي هي تبين لمن تبلغه أنها فاحشة عظيمة فإسناد التبيين إليها مجاز باستعارة التبيين للوضوح ، أو تبيين لولاة الأمور صدورها من المرأة فيكون إسناد التبيين إلى الفاحشة مجازا عقليا وإنما المبين [ ص: 301 ] ملابسها وهو الإقرار والشهادة فيحمل في كل حالة على ما يناسب معنى التبيين .

وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم ( مبينة ) بفتح التحتية ، أي كانت فاحشة بينتها الحجة أو بينها الخارج ومحمل القراءتين واحد .

ووصفها بمبينة إما أن يراد به أنها واضحة في جنس الفواحش ، أي هي فاحشة عظيمة وهذا المقام يشعر بأن عظمها هو عظم ما يأتيه النساء من أمثالها عرفا . وإما أن يراد به مبينة الثبوت للمدة التي تخرج .

وقد اختلفوا في المراد من الفاحشة هنا وفي معنى الخروج لأجلها فعن ابن مسعود وابن عباس والشعبي والحسن وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث بن سعد وأبي يوسف : أن الفاحشة الزنا ، قالوا : ومعاد الاستثناء الإذن في إخراجهن ، أي ليقام عليهن الحد .

وفسرت الفاحشة بالبذاء على الجيران والإحماء أو على الزوج بحيث أن بقاء أمثالهن في جوار أهل البيت يفضي إلى تكرر الخصام فيكون إخراجها من ارتكاب أخف الضررين ونسب هذا إلى أبي بن كعب لأنه قرأ إلا أن يفحشن عليكم بفتح التحتية وضم الحاء المهملة أي الاعتداء بكلام فاحش وروي عن ابن عباس أيضا واختاره الشافعي .

وفسرت الفاحشة بالمعصية من سرقة أو سب أو خروج من البيت فإن العدة بله الزنا ونسب إلى ابن عباس أيضا وابن عمر وقاله السدي وأبو حنيفة .

وعن قتادة الفاحشة : النشوز ، أي إذا طلقها لأجل النشوز فلا سكنى لها .

وعن ابن عمر والسدي إرجاع الاستثناء إلى الجملة التي هو موال لها وهي جملة ( ولا يخرجن ) أي هم منهيات عن الخروج إلا أن يردن أن يأتين بفاحشة ، ومعنى ذلك إرادة تفظيع خروجهن ، أي إن أردن أن يأتين بفاحشة يخرجن وهذا بما يسمى تأكيد الشيء بما يشبه ضده كذا سماه السكاكي تسمية عند الأقدمين تأكيد المادح بما يشبه الذم ومنه قول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

[ ص: 302 ] فجعلت الآية خروجهن ريبة لهن وحذرت النساء منه بأسلوب خطابي بفتح الخاء فيكون هذا الاستثناء منعا لهن من الخروج على طريقة المبالغة في النهي .

ومحمل فعل ( يأتين ) على هذا الوجه أنه من يردن أن يأتين مثل إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم .

وقد ورد في الصحيح عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أنه أتته فاطمة بنت قيس الفهرية فأخبرته أن زوجها أبا عمرو بن حفص أو أبا حفص بن عمرو وكان وجهه النبيء - صلى الله عليه وسلم - مع علي إلى اليمن فأرسل إليها من اليمن بتطليقة صادفت آخر الثلاث فبانت منه ، وأنه أرسل إلى بعض ذويه بأن ينفقوا عليها مدة العدة فقالوا لها ما لك نفقة إلا أن تكوني حاملا ، وأنها رفعت أمرها إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - فقال : لا نفقة لك فاستأذنته في الانتقال فأذن لها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم . وفي رواية أنها قالت : أخاف أن يقتحم علي ( بالبناء للمجهول ) ، وفي رواية أنها كانت في مكان وحش مخيف على ناحيتها فأمرها النبيء - صلى الله عليه وسلم - بالانتقال .

واختلف العلماء في انتقالها فقال جماعة : هو رخصة لفاطمة بنت قيس لا تتجاوزها وكانت عائشة أم المؤمنين ترى ذلك ، روى البخاري أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق امرأته عمرة بنت عبد الرحمن بن الحكم وكان عمها مروان بن الحكم أمير المدينة يومئذ فانتقلها أبوها إليه فبلغ ذلك عائشة أم المؤمنين فأرسلت إلى مروان أن اتق الله وأرددها إلى بيتها فقال مروان أوما بلغك شأن فاطمة بنت قيس قالت عائشة لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة ، فقال مروان إن كان بك الشر فحسبك ما بين هذين من الشر ، ولعل عائشة اقتنعت بذلك إذ لم يرد أنها ردت عليه .

وفي الصحيح عن عمر بن الخطاب أنه قال : لا ندع كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت . وقالت عائشة : ليس لفاطمة بنت قيس خبر في ذكر هذا الحديث وعابت عليها أشد العيب . وقالت : إن فاطمة كانت في مكان وحش مخيف على ناحيتها فرخص لها النبيء - صلى الله عليه وسلم - بالانتقال . ويظهر من هذا أنه اختلاف في حقيقة العذر المسوغ للانتقال . قال مالك : وليس للمرأة أن تنتقل من موضع عدتها بغير عذر رواه الباجي في المنتقى .

[ ص: 303 ] وقال ابن العربي : إن الخروج للحدث والبذاء والحاجة إلى المعايش وخوف العودة من المسكن جائز بالسنة .

ومن العلماء من جوز الانتقال للضرورة وجعلوا ذلك محمل حديث فاطمة بنت قيس فإنها خيف عليها في مكان وحش وحدث بينها وبين أهل زوجها شر وبذاء قال سعيد بن المسيب تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها أنها كانت لسنة فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تنتقل ، وهذا الاختلاف قريب من أن يكون اختلافا لفظيا لاتفاق الجميع عدا عمر بن الخطاب على أن انتقالها كان لعذر قبله النبيء - صلى الله عليه وسلم - فتكون تلك القضية مخصصة للآية ويجري القياس عليها إذا تحققت علة القياس .

أما قول عمر بن الخطاب لا ندع كتاب الله وسنة نبيئنا لقول امرأة أحفظت أم نسيت . فهو دحض لرواية فاطمة ابنة قيس بشك له فيه فلا تكون معارضة لآية حتى يصار إلى الجمع بالتخصيص والترخيص . وقال ابن العربي : قيل إن عمر لم يخصص القرآن بخبر الواحد .

وأما تحديد منع خروج المعتدة من بيتها فلا خلاف في أن مبيتها في غير بيتها حرام . وأما خروجها نهارا لقضاء شئون نفسها فجوزه مالك والليث بن سعد وأحمد للمعتدة مطلقا .

وقال الشافعي : المطلقة الرجعية لا تخرج ليلا ولا نهارا والمبتوتة تخرج نهارا . وقال أبو حنيفة : تخرج المعتدة عدة الوفاة نهارا ولا تخرج غيرها ، لا ليلا ولا نهارا .

وفي صحيح مسلم أن مروان بن الحكم أرسل إلى فاطمة بنت قيس يسألها عن حديثها فلما أبلغ إليه قال : لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا عليها الناس . فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان : فبيني وبينكم القرآن ، قال الله عز وجل : لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا . هذا لمن كان له رجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث فكيف تقولون : لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا فعلام تحبسونها فظنت أن ملازمة بيتها لاستقاء الصلة بينها وبين مفارقها وأنها ملزمة بذلك لأجل الإنفاق .

[ ص: 304 ] والذي تخلص لي أن حكمة السكنى للمطلقة أنها حفظ الأعراض فإن المطلقة يكثر التفات العيون لها وقد يتسرب سوء الظن إليها فيكثر الاختلاف عليها ولا تجد ذا عصمة يذب عنها ، فلذلك شرعت لها السكنى ، ولا تخرج إلا لحاجياتها فهذه حكمة من قبيل المظنة فإذا طرأ على الأحوال ما أوقعها في المشقة أو أوقع الناس في مشقة من جرائها أخرجت من ذلك المسكن وجرى على مكثها في المسكن الذي تنتقل إليه ما يجري عليها في مسكن مطلقها لأن المظنة قد عارضتها مئنة . ومن الحكم أيضا في ذلك أن المطلقة قد لا تجد مسكنا لأن غالب النساء لم تكن لهن أموال وإنما هن عيال على الرجال فلما كانت المعتدة ممنوعة من التزوج كان إسكانها حقا على مفارقها استصحابا للحال حتى تحل للتزوج فتصير سكناها على من يتزوجها . ويزاد في المطلقة الرجعية قصد استبقاء الصلة بينها وبين مطلقها لعله أن يثوب إليه رشده فيراجعها فلا يحتاج في مراجعتها إلى إعادة التذاكر بينه وبينها أو بينه وبين أهلها . فهذا مجموع علل فإذا تخلفت واحدة منها لم يتخلف الحكم لأن الحكم المعلل بعلتين فأكثر لا يبطله سقوط بعضها بخلاف العلة المركبة إذا تخلف جزء منها .

التالي السابق


الخدمات العلمية