الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4520 (58) باب فضائل أبي ذر الغفاري

                                                                                              [ 2382 ] عن عبد الله بن الصامت قال : قال أبو ذر : خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا، فنزلنا على خال لنا فأكرمنا خالنا، وأحسن إلينا ، فحسدنا قومه فقالوا : إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس، فجاء خالنا فنثا علينا الذي قيل له، فقلت : أما ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لك فيما بعد، فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا ثوبه فجعل يبكي، فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها، فأتيا الكاهن فخير أنيسا ، فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها. قال : وقد صليت يا ابن أخي! قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين ! قلت : لمن؟ قال : لله ! قلت : فأين توجه؟ قال : أتوجه حيث يوجهني ربي، أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس. فقال أنيس : إن لي حاجة بمكة فاكفني ! فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث علي، ثم جاء ، فقلت : ما صنعت؟ قال : لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله أرسله ! قلت : فما يقول الناس؟ قال : يقولون شاعر ، ساحر ، كاهن - وكان أنيس أحد الشعراء ، قال أنيس : لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون. قال : قلت : فاكفني حتى أذهب فأنظر.

                                                                                              وفي رواية : قال : نعم، وكن على حذر من أهل مكة، فإنهم قد شنفوا له وتجهموا . قال : فأتيت مكة فتضعفت رجلا منهم، فقلت : أين هذا الذي تدعونه الصابئ؟ فأشار إلي فقال : الصابئ ! فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا علي ! قال : فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر . قال : فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء وشربت من مائها، ولقد لبثت يا ابن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع. قال : فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان إذ ضرب على أصمختهم فما يطوف بالبيت أحد، وامرأتان منهم تدعوان إسافا ونائلة . قال : فأتتا علي في طوافهما، فقلت : أنكحا أحدهما الآخر . قال : فما تناهتا عن قولهما . قال : فأتتا علي، فقلت : هن مثل الخشبة - غير أني لا أكني ، فانطلقتا تولولان وتقولان : لو كان ها هنا أحد من أنفارنا ! قال : فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطتان ، قال : ما لكما؟ قالتا : الصابئ بين الكعبة وأستارها ! قال : ما قال لكما؟ قالتا : إنه قال لنا كلمة تملأ الفم ! وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استلم الحجر ثم طاف بالبيت هو وصاحبه، ثم صلى، فلما قضى صلاته - قال أبو ذر : فكنت أول من حياه بتحية الإسلام . قال : فقلت السلام عليك يا رسول الله! فقال : "وعليك ورحمة الله" . ثم قال : من أنت؟ قال : قلت : من غفار . قال : فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته، فقلت في نفسي : كره أن انتميت إلى غفار، فذهبت آخذ بيده فقدعني صاحبه، وكان أعلم به مني، ثم رفع رأسه فقال : "متى كنت ها هنا" ؟ قال : قد كنت ها هنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم . قال : فمن كان يطعمك؟ قال : قلت : ما كان لي طعام إلا ماء زمزم ، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما أجد على كبدي سخفة جوع ! قال : إنها مباركة ، إنها طعام طعم. فقال أبو بكر : يا رسول الله ، ائذن لي في طعامه الليلة ! فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وانطلقت معهما ، ففتح أبو بكر بابا، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، فكان ذلك أول طعام أكلته بها، ثم غبرت ما غبرت، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم ؟ فأتيت أنيسا ، فقال : ما صنعت؟ قلت : صنعت أني قد أسلمت وصدقت . قال : ما بي رغبة عن دينك ، فإني قد أسلمت وصدقت ! فأتينا أمنا ، فقالت : ما بي رغبة عن دينكما، فإني قد أسلمت وصدقت ! فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا، فأسلم نصفهم، وكان يؤمهم إيماء بن رحضة الغفاري وكان سيدهم ، وقال نصفهم : إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا ! فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلم نصفهم الباقي، وجاءت أسلم فقالوا : يا رسول الله ، إخوتنا ! نسلم على الذي أسلموا عليه - فأسلموا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله .


                                                                                              وفي رواية قال : فتنافرا إلى رجل من الكهان . قال : فلم يزل أخي أنيس يمدحه حتى غلبه . قال : فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا .

                                                                                              وفيها أيضا قال : فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وصلى ركعتين خلف المقام . وفيها بعد " بتحية الإسلام " قال : قلت : السلام عليك يا رسول الله ! قال : وعليك السلام ، من أنت؟

                                                                                              وفيها : فقال أبو بكر : أتحفني بضيافته الليلة.

                                                                                              رواه أحمد ( 5 \ 174 )، ومسلم (2473).

                                                                                              [ 2383 ] وعن ابن عباس قال : لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قال لأخيه : اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ائتني . فانطلق الآخر حتى قدم مكة وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال : رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر. فقال : ما شفيتني فيما أردت ! فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة ، فأتى المسجد فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه ، حتى أدركه - يعني الليل - فاضطجع، فرآه علي فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه ، فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، فظل ذلك اليوم؛ ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه فمر به علي ، فقال : ما أنى للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه ، فذهب به معه، ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالث فعل مثل ذلك، فأقامه علي معه، ثم قال له : ألا تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد ؟ قال : إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت ! ففعل فأخبره ، فقال : فإنه حق، وإنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي - ففعل ، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه ، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري ! فقال : والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم ! فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ! وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس فأكب عليه فقال : ويلكم ! ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجاركم إلى الشام عليهم ! فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد بمثلها وثاروا إليه فضربوه، فأكب عليه العباس فأنقذه .

                                                                                              رواه أحمد ( 4 \ 114 )، والبخاري (3861)، ومسلم (2474).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (58) ومن باب : فضائل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه

                                                                                              واسمه جندب - على الأصح والأكثر - ابن جنادة بن قيس بن عمرو بن مليل بن حرام بن غفار ، وغفار بن كنانة بن مدركة بن إلياس بن قصي بن نزار .

                                                                                              هو من كبار الصحابة رضي الله عنه وعنهم ، قديم الإسلام ، يقال : أسلم بعد أربعة [ ص: 391 ] فكان خامسا ، ثم انصرف إلى بلاد قومه فأقام بها حتى قدم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عام الحديبية بعد أن مضت بدر وأحد والخندق ، ويدل على كيفية إسلامه وتفصيل أحواله حديثه المذكور في الأصل ، وكان قد غلب عليه التعبد والزهد ، وكان يعتقد أن جميع ما فضل عن الحاجة كنز وإمساكه حرام ، ودخل الشام بعد موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوقع بينه وبين معاوية نزاع في قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة . . . الآية [التوبة: 34] ، فشكاه معاوية إلى عثمان فأقدمه عثمان المدينة فقدمها ، فزهد أبو ذر في كل ما بأيديهم ، واستأذن عثمان في سكنى الربذة فأذن له ، وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أذن له في البدو ، فأقام بالربذة في موضع منقطع إلى أن مات بها سنة اثنتين وثلاثين على ما قاله ابن إسحاق ، وصلى عليه عبد الله بن مسعود منصرفه من الكوفة في ركب ، ولم يوجد له شيء يكفن فيه ، فكفنه رجل من أولئك الركب في ثوب من غزل أمه ، وكان قد وصى ألا يكفنه أحد ولي شيئا من الأعمال السلطانية ، وخبره بذلك معروف .

                                                                                              روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مائتي حديث وواحدا وثمانين حديثا ، أخرج له منها في الصحيحين ثلاثة وثلاثون حديثا .

                                                                                              غريب حديث أبي ذر رضي الله عنه :

                                                                                              الشنة : السقاء البالي ، والشنان : الأسقية ، واحدها شن ، وكل جلد بال فهو شن . ويقال للقربة البالية : شنة ، وهي أشد تبريدا للماء من الجدد .

                                                                                              وقوله " ما أنى للرجل " ؛ أي : ما كان ، يقال : أنى وآن - بمعنى واحد ، و " تقفوه " : تتبعه .

                                                                                              وقوله " لأصرخن بها " ؛ أي : بكلمة التوحيد .

                                                                                              " بين ظهرانيهم " : يعني المشركين بمكة .

                                                                                              [ ص: 392 ] وقوله " فنثا علينا خالنا الذي قيل له " ؛ أي : أظهر لنا بالقول ، يقال : النثى - بتقديم النون والقصر - في الشر والكلام القبيح ، وإذا قدمت الثاء ومددت فهو الكلام الحسن الجميل .

                                                                                              وقوله " لا جماع لك " ؛ أي : لا اجتماع يبقى بيننا .

                                                                                              و " الصرمة " : القطعة من الإبل نحو الثلاثين ، وقد تكون الصرمة في غير هذا: القطعة من النخل ، والصرم القطع .

                                                                                              وقوله " فنافر أنيس عن صرمتنا ، وعن مثلها " ؛ أي : التزم أن من قضي له بالغلبة أخذ ذلك ، قال أبو عبيد : المنافرة أن يفتخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه ثم يحكما رجلا بينهما ، والنافر : الغالب ، والمنفور : المغلوب . يقال : نفره ، ينفره ، وينفره ، نفرا - إذا غلب عليه .

                                                                                              وقوله " فأتيا الكاهن فخير أنيسا " ؛ أي غلبه وقضى له ، وكانت منافرته في الشعر أيهما أشعر .

                                                                                              وقوله " وقد صليت قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، هذا إلهام للقلوب الطاهرة ومقتضى العقول السليمة ، فإنها توفق للصواب وتلهم للرشد .

                                                                                              [ ص: 393 ] وقوله : " ألقيت كأني خفاء " ، الرواية في " ألقيت " بضم الهمزة وكسر القاف مبنيا لما لم يسم فاعله . والخفاء بكسر الخاء والمد : هو الغطاء ، وكل شيء غطيته بكساء أو ثوب فذلك الغطاء خفاء ، ويجمع أخفية - قاله أبو عبيد . وقال ابن دريد : الخفاء كساء يطرح على السقاء .

                                                                                              و (قوله : " فراث علي ") ؛ أي : أبطأ .

                                                                                              و (قوله : " وضعت قوله على أقراء الشعر ") ، قال ابن قتيبة : يريد أنواعه وطرقه ، واحدها قرء . فيقال : هذا الشعر على قرء هذا .

                                                                                              و (قوله : " فتضعفت رجلا ") ؛ أي : رأيته ضعيفا فعلمت أنه لا ينالني بمكروه ولا يرتاب بمقصدي .

                                                                                              و (قوله : " كأني نصب أحمر ") ؛ أي : قمت كأني لجريان دمي من الجراحة التي أصبت بها أحد الأنصاب ، وهي الحجارة التي كانوا يذبحون عليها فتحمر بالدماء .

                                                                                              فأما زمزم فقال ابن فارس : هو من قولهم زمزمت الناقة إذا جعلت لها زماما تحبسها به ، وذلك أن جبريل ـ عليه السلام ـ لما همز الأرض بمقاديم جناحيه ففاض الماء زمتها هاجر ، فسميت : زمزم .

                                                                                              و (قوله : " ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر ") ، كذا الرواية الصحيحة " أقراء " [ ص: 394 ] بالراء جمع قرء على ما تقدم ، وقيده العذري " أقواء " بالواو ، ورواه بعضهم بالواو وكسر الهمزة ، قال القاضي : لا وجه له .

                                                                                              و (قوله : " فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر ") ، هكذا الرواية عند جميع الشيوخ ، " بعدي " بالباء بواحدة والعين المهملة بمعنى غيري ، يقال : ما فعل هذا أحد بعدك - أي : غيرك . كما يقال ذلك في " دون " ، وهو كثير فيها . ومعنى الكلام أنه لما اعتبر القرآن بأنواع الشعر تبين له ليس من أنواعه ، ثم قطع بأنه لا يصح لأحد أن يقول إنه شعر ، ووقع في بعض النسخ " يقري " بفتح الياء ، قال القاضي : وهو جيد ، وأحسن منه " يقري " بضمها ، وهو مما تقدم ، يقال : أقرأت في الشعر ، وهذا الشعر على قرء هذا ، وقرؤه : أي قافيته ، وجمعها : أقراء . وفي بعض النسخ أيضا " على لسان أحد يعزى إلى شعر " ؛ أي : ينسب إليه ويوصف به - وللروايات كلها وجه .

                                                                                              و (قوله : " فما وجدت على كبدي سخفة جوع ") ، قال الأصمعي : السخفة [ ص: 395 ] الخفة ، ولا أحسب قولهم سخيف إلا من هذا .

                                                                                              و (قوله : " في ليلة قمراء إضحيان ") ، القمراء : المقمرة ، وهي التي يكون فيها قمر ، ويسمى الهلال قمرا من أول الليلة الثالثة إلى أن يصير بدرا ، ثم إذا أخذ في النقص عاد عليه اسم القمر . وإضحيان - بكسر الهمزة والضاد المعجمة : معناه كثير ضوء قمرها . قال ابن قتيبة : ويقال ليلة إضحيان وإضحيانة وضحيانة - إذا كانت مضيئة .

                                                                                              و (قوله : " ضرب على أصمختهم ") ؛ أي ناموا ، ومنه قوله تعالى : فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا [الكهف: 11] ؛ أي : أنمناهم . الأصمخة جمع صماخ ، وهو خرق الأذن ، وهو بالصاد ، وقد أخطأ من قاله بالسين . وإساف ونائلة صنمان ، وقد تقدم ذكرهما في كتاب الحج ، وقد روى ابن أبي نجيح أن إسافا ونائلة كانا رجلا وامرأة حجا من الشام ، فقبلها وهما يطوفان فمسخا حجرين ، فلم يزالا في المسجد حتى جاء الإسلام فأخرجا منه .

                                                                                              و (قوله : " فما تناهتا عن قولهما ") ؛ أي : ما رجعتا عنه .

                                                                                              و (قوله : " هن مثل الخشبة ") يعني به الذكر ، وقد تقدم أن " هنا " كناية عن النكرات ، وأراد بذكره هنا سب إساف ونائلة ، وهو تقبيح ، كقوله أولا " أنكحا أحدهما الآخر " .

                                                                                              [ ص: 396 ] و (قوله : " تولولان ") ؛ أي : تدعوان بالويل وترفعان بذلك أصواتهما .

                                                                                              وقولهما : " لو كان أحد من أنفارنا " ؛ أي : من قومنا ، وهو جمع نفر ، والنفر : ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وجواب " لو " محذوف ، أي : لنصرنا عليك - ونحوه .

                                                                                              و (قولهما : " الصابئ ") ؛ أي الخارج عن دين قومه ، ويهمز ولا يهمز ، وقد قرئ بهما .

                                                                                              و (قولهما : " قال كلمة تملأ الفم ") ؛ أي عظيمة ، حتى كأن الفم يضيق عنها .

                                                                                              و (قوله : " فكنت أول من حياه بتحية الإسلام ") ؛ يعني به : السلام عليك يا رسول الله ! وظاهره أنه ألهم النطق بتلك الكلمة ، إذ لم يكن سمعها قبل ذلك ، وعلمه بكونه أول من حياه يحتمل أن يكون إلهاما، ويحتمل أن يكون علمه بغير ذلك بالاستقراء ثم أخبر عنه ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              و (قوله : " فقدعني صاحبه ") ؛ أي : كفني ومنعني . يقال : قدعت الرجل [ ص: 397 ] وأقدعته - إذا كففته ، ومنه قول الحسن : اقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة - وهو بالدال المهملة .

                                                                                              و (قوله : " إنها طعام طعم ") ؛ أي : يشبع منه ويرد الجوع . الرواية فيه " طعام طعم " بالإضافة ، والطعام : اسم لما يتطعم ، فكأنه قال : طعام إشباع ، أو طعام يشبع - فأضافه إلى صفته ، هذا على معنى ما قاله ابن شميل ، فإنه قال : يقال إن هذا لطعام طعم ، أي : يطعم من أكله ، أي : يشبع منه الإنسان ، وما يطعم أكل هذا الطعام أي ما يشبع منه ، غير أنه قد قال الجوهري : الطعم بالضم الطعام ، وبالفتح ما يشتهى منه . قال : قال أبو خراش :


                                                                                              أرد شجاع البطن لو تعلمينه ويؤثر غيري من عيالك بالطعم وأغتبق الماء القراح فأنتهي
                                                                                              إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم

                                                                                              قال : فأراد بالأول الطعام وبالثاني ما يشتهى .

                                                                                              قلت : وعلى هذا فلا تصح الإضافة من جهة المعنى ، فإنه يكون كقولك طعام طعام ، ولا يصح لأنه إضافة الشيء إلى نفسه ، وإنما يستقيم معنى الحديث على ما حكاه ابن شميل ، ويحصل من قولهما أن طعما تستعمل بمعنى الاسم، كما قاله الجوهري وبمعنى الصفة، كما قاله ابن شميل ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              وقد روى أبو داود الطيالسي من حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ [ ص: 398 ] في زمزم : " إنها مباركة ، وهي طعام طعم وشفاء سقم " ؛ أي : طعام من جوع وشفاء من سقم .

                                                                                              و (قوله في هذا الحديث : " إنها مباركة ") ؛ أي : إنها تظهر بركتها على من صح صدقه وحسنت فيها نيته ، كما قد روى العقيلي أبو جعفر من حديث أبي الزبير عن جابر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " ماء زمزم لما شرب له " . فينبغي أن يتبرك بها ويحسن النية في شربها ويحمل من مائها ، فقد روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تحمل من ماء زمزم ، وتخبر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يحمله . قال : حديث حسن غريب .

                                                                                              و (قوله : " ثم غبرت ما غبرت ") ؛ أي : بقيت ما بقيت ، وقد تقدم أن غبر من الأضداد .

                                                                                              و (قوله : " وقد وجهت إلى أرض ذات نخل ") ؛ أي : ذهب بي إلى تلك الجهة وأريتها .

                                                                                              و (قوله : " لا أراها إلا يثرب ") ، هذا كان اسم المدينة قديما حتى قدمها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكره أن تسمى يثرب ، لأنه مأخوذ من التثريب وهو اللوم والتقبيح ، وسماها " طابة " ، وقد تقدم هذا في الحج ، وأيماء بن رحضة يروى بفتح الهمزة وكسرها ، ورحضة بفتح الحاء المهملة والضاد المعجمة .

                                                                                              [ ص: 399 ] و (قوله : " غفار غفر الله لها ، وأسلم سالمها الله " ، إنما دعا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهاتين القبيلتين لأنهما أسلمتا طوعا من غير قتال ولا إكراه ، ويحتمل أن يكون ذلك خبرا عما فعل الله بهاتين القبيلتين من المغفرة والمسالمة لهما . وكيف ما كان فقد حصل لهما فخر السابق وأجر اللاحق ، وفيه مراعاة التجنيس في الألفاظ .

                                                                                              و (قوله : " إنهم قد شنفوا له وتجهموا ") ؛ أي : أبغضوه وعبسوا في وجهه ، والشنف : البغض ، ويقال : رجل جهم الوجه إذا كان غليظه منعقده ، كأنه يعبس وجهه لكل أحد .

                                                                                              [ ص: 400 ] و (قوله : " فلم يزل أخي أنيس يمدحه حتى غلبه ") ، كذا في رواية السجزي وغيره ، وهي واضحة ، أي : لم يزل ينشد شعرا يقتضي المدح حتى حكم له الكاهن بالغلبة على الآخر وأنه أشعر منه ، وكأن هذا الكاهن كان شاعرا فقضى بينهما بذلك ، وفي رواية العذري : " فلم يزل أخي أنيس يمدحه ويثني عليه " مكان : " حتى غلبه " . قال : فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا ، والرواية الأولى أولى؛ لأنها أفادت معنى مناسبا به التأم الكلام بما بعده ، وهو أنه إنما أخذ صرمته لأن الكاهن قضى له بالغلبة ، ولأن قوله " ويثني عليه " مكرر ، لأنه قد فهم ذلك من قوله " يمدحه " ، فحمل الكلام على فائدة جديدة أولى . وإنما ذكر هذا المعنى ليبين أن أخاه أنيسا كان شاعرا مفلقا مجيدا ، بحيث يحكم له بغلبة الشعراء ، ومن [ ص: 401 ] كان هكذا علم أنه عالم بالشعر وأنواعه . فلما كان كذلك وسمع القرآن علم قطعا أنه ليس بشعر ، ولذلك قال : لقد وضعته على أنواع الشعر فلم يلتئم ، فكانت هذه شهادة بأنه ليس بشعر ولا أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ شاعر ، فكان ذلك تكذيبا لمن زعمه من جهال الكفار ومن المعاندين الفجار .

                                                                                              قلت : وقد ظهر بين حديث عبد الله بن الصامت وبين حديث عبد الله بن عباس تباعد واختلاف في موضع من حديث أبي ذر هذا بحيث يبعد الجمع بينهما فيه ، وذلك أن في حديث ابن الصامت أن أبا ذر لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أول ما لقيه ليلا، وهو يطوف بالكعبة ، فأسلم إذ ذاك بعد أن أقام ثلاثين بين يوم وليلة ولا زاد له ، وإنما اغتذى بماء زمزم . وفي حديث ابن عباس : إنه كان له قربة وزاد ، وأن عليا ـ رضي الله عنه ـ أضافه ثلاث ليال ثم أدخله على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيته فأسلم ، ثم خرج يصرخ بكلمتي الإسلام . وكل ذلك من السندين صحيح ، فالله أعلم أي [ ص: 402 ] المتنين الواقع ، ويحتمل أن يقال إن أبا ذر لما لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حول الكعبة وأسلم لم يعلم به إذ ذاك علي إذ لم يكن معه ، ثم إن أبا ذر بقي مستقرا بحاله إلى أن استتبعه علي ثم أدخله على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجدد إسلامه ، فظن الراوي أن ذلك أول إسلامه ، وفي هذا الاحتمال بد ، والله أعلم بحقيقة ذلك .

                                                                                              ولم أر من الشارحين لهذا الحديث من ينبه لهذا التعارض ولا لهذا التأويل .




                                                                                              الخدمات العلمية