الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون

قالت فرقة: لا يفلح الظالمون ؛ كلام تام؛ معناه: "لا يفلحون جملة؛ ثم استأنف فقال: "واذكر يوم نحشرهم"؛ وقال الطبري : المعنى: "لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا؛ ويوم [ ص: 334 ] نحشرهم"؛ عطفا على الظرف المقدر؛ والكلام متصل.

وقرأت طائفة: "نحشرهم"؛ و"نقول" بالنون؛ وقرأ حميد؛ ويعقوب فيهما بالياء؛ وقرأ عاصم - هنا وفي "يونس"؛ قبل الثلاثين -: "نحشرهم"؛ و"نقول"؛ بالنون؛ وقرأ في باقي القرآن بالياء؛ وقرأ أبو هريرة "نحشرهم"؛ بكسر الشين؛ فيجيء الفعل - على هذا -: "حشر؛ يحشر؛ ويحشر".

وأضاف الشركاء إليهم لأنه لا شركة لهم في الحقيقة بين الأصنام وبين شيء؛ وإنما وقع عليها اسم الشريك بمجرد تسمية الكفرة؛ فأضيفت إليهم لهذه النسبة.

و"تزعمون"؛ معناه: تدعون أنهم [شركاء] لله تعالى ؛ والزعم: القول الأميل إلى الباطل؛ والكذب؛ في أكثر كلامهم؛ وقد يقال: "زعم"؛ بمعنى: "ذكر"؛ دون ميل إلى الكذب؛ وعلى هذا الحد يقول سيبويه ؛ زعم الخليل؛ ولكن ذلك إنما يستعمل في الشيء الغريب؛ الذي تبقى عهدته على قائله.

وقوله تعالى ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا ؛ الآية؛ قرأ ابن كثير - في رواية شبل عنه -؛ وعاصم - في رواية حفص وابن عامر : " تكن فتنتهم"؛ برفع الفتنة؛ و"إلا أن قالوا"؛ في موضع نصب على الخبر؛ التقدير: "إلا قولهم"؛ وهذا مستقيم؛ لأنه أنث العلامة في الفعل حين أسنده إلى مؤنث؛ وهي الفتنة؛ وقرأ نافع ؛ وأبو عمرو ؛ وعاصم - في رواية أبي بكر - رضي الله عنه -؛ وابن كثير أيضا: "تكن فتنتهم"؛ بنصب الفتنة؛ واسم "كان": "أن قالوا"؛ وفي هذه القراءة تأنيث "أن قالوا"؛ وساغ إلى ذلك من حيث الفتنة مؤنثة في المعنى؛ قال أبو علي : وهذا كقوله تعالى فله عشر أمثالها ؛ فأنث الأمثال؛ لما كانت الحسنات بالمعنى؛ وقرأ حمزة ؛ والكسائي : "يكن"؛ بالياء؛ "فتنتهم"؛ بالنصب؛ واسم "كان": إلا أن قالوا ؛ وهذا مستقيم؛ لأنه ذكر علامة الفعل حين أسنده إلى مذكر؛ قال الزهراوي : وقرأت فرقة: "يكن فتنتهم"؛ برفع الفتنة؛ وفي هذه القراءة إسناد فعل مذكر إلى مؤنث؛ وجاء ذلك بالمعنى؛ لأن الفتنة [ ص: 335 ] بمعنى الاختبار؛ أو المودة في الشيء؛ والإعجاب؛ وقرأ أبي بن وكيع ؛ وابن مسعود ؛ والأعمش : "وما كان فتنتهم"؛ وقرأ طلحة بن مصرف : "ثم كان فتنتهم".

والفتنة في كلام العرب: لفظة مشتركة؛ تقال بمعنى حب الشيء والإعجاب به؛ كما تقول "فتنت بكذا"؛ وتحتمل الآية هنا هذا المعنى؛ أي: "لم يكن حبهم للأصنام؛ وإعجابهم بها؛ واتباعهم لها لما سئلوا عنها؛ ووقفوا على عجزها؛ إلا التبري منها؛ والإنكار لها"؛ وهذا توبيخ لهم؛ كما تقول لرجل كان يدعي مودة آخر؛ ثم انحرف عنه وعاداه: "يا فلان؛ لم تكن مودتك لفلان إلا أن شتمته وعاديته"؛ ويقال: "الفتنة"؛ في كلام العرب؛ بمعنى الاختبار؛ كما قال - عز وجل - لموسى - عليه السلام -: وفتناك فتونا ؛ وكقوله تعالى ولقد فتنا سليمان وألقينا ؛ وتحتمل الآية ههنا هذا المعنى؛ لأن سؤالهم عن الشركاء؛ وتوقيفهم اختبار؛ فالمعنى: "ثم لم يكن اختبارنا لهم - إذ لم يفد ولا أثمر - إلا إنكارهم الإشراك".

وتجيء الفتنة في اللغة على معان غير هذين؛ لا مدخل لها في الآية؛ ومن قال: "إن أصل الفتنة الاختبار؛ من "فتنت الذهب في النار"؛ ثم يستعار بعد ذلك في غير ذلك"؛ فقد أخطأ؛ لأن الاسم لا يحكم عليه بمعنى الاستعارة حتى يقطع باستحالة حقيقته في الموضع الذي استعير له؛ كقول ذي الرمة :


................. ... ولف الثريا في ملاءته الفجر



ونحوه؛ والفتنة لا يستحيل أن تكون حقيقة في كل موضع قيلت عليه.

[ ص: 336 ] وقرأ نافع ؛ وابن كثير ؛ وأبو عمرو ؛ وعاصم ؛ وابن عمر : "والله ربنا"؛ خفض على النعت لاسم الله تعالى ؛ وقرأ حمزة والكسائي : "ربنا"؛ نصب على النداء؛ ويجوز فيه تقدير المدح؛ وقرأ عكرمة ؛ وسلام بن مسكين : "والله ربنا"؛ برفع الاسمين؛ وهذا على تقدير تقديم؛ وتأخير؛ كأنهم قالوا: "ما كنا مشركين؛ والله ربنا"؛ و"ما كنا مشركين"؛ معناه جحود إشراكهم في الدنيا؛ فروي أنهم إذا رأوا إخراج من في النار من أهل الإيمان؛ ضجوا؛ فيوقفون؛ ويقال لهم: "أين شركاؤكم"؛ فينكرون؛ طماعية منهم أن يفعل بهم ما فعل بأهل الإيمان؛ وأتى رجل ابن عباس فقال: سمعت الله تعالى يقول: والله ربنا ما كنا مشركين ؛ وفي أخرى: ولا يكتمون الله حديثا ؛ فقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن؛ قالوا: تعالوا فلنجحد؛ وقالوا: "ما كنا مشركين"؛ فختم الله تعالى على أفواههم؛ وتكلمت جوارحهم؛ فلا يكتمون الله حديثا".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وعبر بعض المفسرين عن الفتنة هنا بأن قالوا: "معذرتهم"؛ قاله قتادة ؛ وقال آخرون: "كلامهم"؛ قاله الضحاك ؛ وقيل غير هذا؛ مما هو كله في ضمن ما ذكرناه.

وقوله تعالى انظر كيف كذبوا ؛ الآية؛ الخطاب لمحمد - عليه الصلاة والسلام -؛ والنظر نظر القلب؛ وقال: "كذبوا" في أمر لم يقع؛ إذ هي حكاية يوم القيامة؛ فلا إشكال في استعمال الماضي فيها موضع المستقبل؛ ويفيدنا استعمال الماضي تحقيقا ما في الفعل؛ وإثباتا له؛ وهذا مهيع في اللغة؛ ومنه قول الربيع بن ضبع الفزاري:

[ ص: 337 ]

أصبحت لا أحمل السلاح ولا ...     أملك رأس البعير إن نفرا



يريد: "إن ينفر".

"وضل عنهم"؛ معناه: "ذهب افتراؤهم في الدنيا؛ وكذبهم بادعائهم لله - تبارك وتعالى - الشركاء".

التالي السابق


الخدمات العلمية