الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب ( 11 ) بل عجبت ويسخرون ( 12 ) )

يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : فاستفت يا محمد هؤلاء المشركين الذي ينكرون البعث بعد الممات والنشور بعد البلاء : يقول : فسلهم : أهم أشد خلقا ؟ يقول : أخلقهم أشد أم خلق من عددنا خلقه من الملائكة والشياطين والسماوات والأرض ؟

وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله بن مسعود : " أهم أشد خلقا أم من عددنا " ؟

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( أهم أشد خلقا أم من خلقنا ) ؟ قال : السماوات والأرض والجبال .

[ ص: 20 ] حدثنا ابن حميد قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك أنه قرأ " أهم أشد خلقا أم من عددنا " ؟ وفي قراءة عبد الله بن مسعود " عددنا " يقول : ( رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق ) يقول : أهم أشد خلقا ، أم السماوات والأرض ؟ يقول : السماوات والأرض أشد خلقا منهم .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من ) عددنا " من خلق السماوات والأرض ، قال الله : ( لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ) . . . الآية .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( فاستفتهم أهم أشد خلقا ) قال : يعني المشركين ، سلهم أهم أشد خلقا ( أم من خلقنا )

وقوله ( إنا خلقناهم من طين لازب ) يقول : إنا خلقناهم من طين لاصق . وإنما وصفه - جل ثناؤه - باللزوب ، لأنه تراب مخلوط بماء ، وكذلك خلق ابن آدم من تراب وماء ونار وهواء ، والتراب إذا خلط بماء صار طينا لازبا ، والعرب تبدل أحيانا هذه الباء ميما ، فتقول : طين لازم ، ومنه قول النجاشي الحارثي :


بنى اللؤم بيتا فاستقرت عماده عليكم بني النجار ضربة لازم



ومن اللازب قول نابغة بني ذبيان :


ولا يحسبون الخير لا شر بعده     ولا يحسبون الشر ضربة لازب



[ ص: 21 ] وربما أبدلوا الزاي التي في اللازب تاء ، فيقولون : طين لاتب ، وذكر أن ذلك في قيس زعم الفراء أن أبا الجراح أنشده :


صداع وتوصيم العظام وفترة     وغثي مع الإشراق في الجوف لاتب



بمعنى : لازم ، والفعل من لازب : لزب يلزب ، لزبا ولزوبا وكذلك من لاتب : لتب يلتب لتوبا .

وبنحو الذي قلنا في معنى ( لازب ) قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني عبيد الله بن يوسف الجبيري قال : ثنا محمد بن كثير قال : ثنا مسلم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله ( من طين لازب ) قال : هو الطين الحر الجيد اللزج .

حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن ، قالا ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد ، عن ابن عباس قال : اللازب : الجيد .

[ ص: 22 ] حدثنا أبو كريب قال : ثنا عثمان بن سعيد قال : ثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : اللازب : اللزج الطيب .

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله ( من طين لازب ) يقول : ملتصق .

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( إنا خلقناهم من طين لازب ) قال : من التراب والماء فيصير طينا يلزق .

حدثنا هناد قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله ( إنا خلقناهم من طين لازب ) قال : اللازب : اللزج .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا يحيى بن واضح قال : ثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ( إنا خلقناهم من طين لازب ) واللازب : الطين الجيد .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال الله ( إنا خلقناهم من طين لازب ) واللازب : الذي يلزق باليد .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله ( من طين لازب ) قال : لازم .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي قال : ثنا مروان بن معاوية قال : ثنا جويبر ، عن الضحاك ، في قوله ( من طين لازب ) قال : هو اللازق .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( إنا خلقناهم من طين لازب ) قال : اللازب : الذي يلتصق كأنه غراء ، ذلك اللازب .

قوله ( بل عجبت ويسخرون ) اختلفت القراء فى قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الكوفة : ( بل عجبت ويسخرون ) بضم التاء من عجبت ، بمعنى : بل عظم [ ص: 23 ] عندي وكبر اتخاذهم لي شريكا ، وتكذيبهم تنزيلي وهم يسخرون . وقرأ ذلك عامة قراء المدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة ( بل عجبت ) بفتح التاء بمعنى : بل عجبت أنت يا محمد ويسخرون من هذا القرآن .

والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان في قراء الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .

فإن قال قائل : وكيف يكون مصيبا القارئ بهما مع اختلاف معنييهما ؟ قيل : إنهما وإن اختلف معنياهما فكل واحد من معنييه صحيح ، قد عجب محمد مما أعطاه الله من الفضل ، وسخر منه أهل الشرك بالله ، وقد عجب ربنا من عظيم ما قاله المشركون في الله ، وسخر المشركون بما قالوه .

فإن قال : أكان التنزيل بإحداهما أو بكلتيهما ؟ قيل : التنزيل بكلتيهما . فإن قال : وكيف يكون تنزيل حرف مرتين ؟ قيل : إنه لم ينزل مرتين ، إنما أنزل مرة ، ولكنه أمر - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ بالقراءتين كلتيهما ، ولهذا موضع سنستقصي إن شاء الله فيه البيان عنه بما فيه الكفاية .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( بل عجبت ويسخرون ) قال : عجب محمد عليه الصلاة والسلام من هذا القرآن حين أعطيه ، وسخر منه أهل الضلالة .

التالي السابق


الخدمات العلمية