الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
القسم الثامن الإيضاح بعد الإبهام ليرى المعنى في صورتين ، أو ليكون بيانه بعد التشوف إليه ; لأنه يكون ألذ للنفس ، وأشرف عندها ، وأقوى لحفظها وذكرها ، كقوله تعالى : وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ( الحجر : 66 ) .

وقوله تعالى : قل هو الله أحد ( الإخلاص : 1 ) فإن وضع الضمير موضع الظاهر معناه البيان أو الحديث ، أو الأمر لله أحد مكفوا بها ثم فسر ، وكان أوقع في النفس من الإتيان به مفسرا من أول الأمر ; ولذلك وجب تقديمه .

وتفيد به الجملة المراد ; تعظيما له .

وسيأتي عكسه في وضع الظاهر موضع المضمر .

ومثله التفصيل بعد الإجمال ، كقوله تعالى : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ( التوبة : 36 ) .

وعكسه كقوله تعالى : ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ( البقرة : 196 ) .

وقوله تعالى : وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة ( الأعراف : 142 ) وأعاد قوله : ( أربعين ) وإن كان معلوما من " الثلاثين " و " العشر " أنها أربعون لنفي اللبس ; لأن العشر لما أتت بعد الثلاثين التي هي نص في [ ص: 56 ] المواعدة دخلها الاحتمال أن تكون من غير المواعدة ، فأعاد ذكر " الأربعين " نفيا لهذا الاحتمال ، وليعلم أن جميع العدد للمواعدة .

وهكذا قوله تعالى : فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ( البقرة : 196 ) أعاد ذكر العشرة ، لما كانت الواو تجيء في بعض المواضع للإباحة ، وقوله : ( كاملة ) تحقيق لذلك ، وتأكيد له .

فإن قلت : فإذا كان زمن المواعدة أربعين فلم كانت " ثلاثين " ثم عشرا ؟ أجاب ابن عساكر في " التكميل والإفهام " بأن العشر إنما فصل من أولئك ; ليتحدد قرب انقضاء المواعدة ، ويكون فيه متأهبا مجتمع الرأي ، حاضر الذهن ; لأنه لو ذكر الأربعين أولا لكانت متساوية ، فإذا جعل العشر فيها إتماما لها استشعرت النفس قرب التمام ، وتجدد بذلك عزم لم يتقدم .

قال : وهذا شبيه بالتلوم الذي جعله الفقهاء في الآجال المضروبة في الأحكام ، ويفصلونه من أيام الأجل ، ولا يجعلونها شيئا واحدا ; ولعلهم استنبطوه من هذا .

فإن قلت : فلم ذكر في هذه السورة - أعني الأعراف - الثلاثين ثم العشر ، وقال في البقرة : وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ( البقرة : 51 ) ولم يفصل العشر منها .

والجواب ، والله أعلم : أنه قصد في الأعراف ذكر صفة المواعدة ، والإخبار عن كيفية وقوعها ، فذكر على صفتها ، وفي البقرة إنما ذكر الامتنان على بني إسرائيل بما أنعم به عليهم ، فذكر نعمه عليهم مجملة ، فقال : وإذ فرقنا بكم البحر ( البقرة : 50 ) وإذ نجيناكم من آل فرعون ( البقرة : 49 ) .

[ ص: 57 ] واعلم أنه يخرج لنا مما سبق جوابان في ذكر العشرة بعد الثلاثة والسبعة : إما الإجمال بعد التفصيل ، وإما رفع الالتباس ، ويضاف إلى ذلك أجوبة . ثالثها : أنه قصد رفع ما قد يهجس في النفوس ، من أن المتمتع إنما عليه صوم سبعة أيام لا أكثر ; ثلاثة منها في الحج ، ويكمل سبعا إذا رجع .

رابعها : أن قاعدة الشريعة أن الجنسين في الكفارة لا يجب على المكفر الجمع بينهما ، فلا يلزم الحالف أن يطعم المساكين ويكسوهم ، ولا المظاهر العتق والصوم ، فلما اختلف محل هذين الصومين فكانت ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع ، صارا باختلاف المحلين كالجنسين ، والجنسان لا يجمع بينهما .

وأفادت هذه الزيادة ، وهي قوله : تلك عشرة كاملة ( البقرة : 196 ) رفع ما قد يهجس في النفوس ، من أنه إنما عليه أحد النوعين : إما الثلاث وإما السبع .

الخامس : أن المقصود ذكر كمال لا ذكر العشرة ، فليست العشرة مقصودة بالذات ; لأنها لم تذكر إلا للإعلام بأن التفصيل المتقدم عشرة ; لأن ذلك من المعلوم بالضرورة ، وإنما ذكرت لتوصف بالكمال الذي هو مطلوب في القصة .

السادس : أن في الكلام تقديما وتأخيرا ، والتقدير : فصيام عشرة أيام : ثلاثة في الحج ، وسبعة إذا رجعتم ، وهذا وإن كان خلاف الأصل لكن الإشكال ألجأنا إليه .

السابع : أن الكفارات في الغالب إنما تجب متتابعة ، ككفارات الجنايات ، ولما فصل هاهنا بين صوم هذه الكفارة بالإفطار قبل صومها بذكر الفدية ; ليعلم أنها وإنما كانت منفصلة فهي كالمتصلة .

فإن قلت : فكفارة اليمين لا تجب متتابعة ، ومن جنس هذه الكفارة ما يجب على [ ص: 58 ] المحرم إذا حلق ثلاث شعرات ، ومن عجز عن الفدية فإنه يصوم ثلاثة أيام ، ولا يشترط التتابع .

قلت : هي في حكم المتتابعة بالنسبة إلى الثواب ; إلا أن الشرع خفف بالتفريق .

ثامنها : أن السبع قد تذكر والمراد به الكثرة لا العدد ، والذي فوق الستة ودون الثمانية ، وروى أبو عمرو بن العلاء وابن الأعرابي عن العرب : سبع الله لك الأجر ; أي : أكثر ذلك ، يريدون التضعيف .

وقال الأزهري في قوله تعالى : إن تستغفر لهم سبعين مرة ( التوبة : 80 ) : " هو جمع السبع ، الذي يستعمل للكثرة ، وإذا كان كذلك فاحتمل أن يتوهم أن المراد بالسبع ما هو أكثر من السبع ، ولفظها معطوف على الثلاثة بآلة الجمع ، فيفضي إلى الزيادة في الكفارة على العدد المشروع ، فيجب حينئذ رفع هذا الاحتمال بذكر الفذلكة ; وللعرب مستند قوي في إطلاق السبع والسبعة ، وهي تريد الكثرة ليس هذا موضع ذكره " .

تاسعها : أن الثلاثة لما عطف عليها السبعة احتمل أن يأتي بعدها ثلاثة أو غيرها من الأعداد ، فقيد بالعشرة ; ليعلم أن المراد كمل ، وقطع الزيادة المفضية للتسلسل .

عاشرها : أن السبعة المذكورة عقب الثلاثة يحتمل أن تكون الثلاثة داخلة فيها ، كما في قوله : وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام ( فصلت : 10 ) أي : مع اليومين اللذين خلق الأرض فيهما ، فلا بد من اعتقاد هذا التأويل ; ليندفع ظاهر التناقض ، فجاء التقييد بالعشرة لرفع توهم التداخل .

وهذا الجواب أشار إليه الزمخشري ، ونقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام [ ص: 59 ] ترجيحه ، وردده ابن أبي الإصبع ; لأن احتمال التداخل لا يظن إلا بعددين منفصلين لم يأت بهما جملة ، فلو اقتصر على التفصيل احتمل ذلك ; فالتقييد مانع من هذا الاحتمال .

وهذا أعجب منه فإن مجيء الجملة رافع لذلك الاحتمال .

الحادي عشر : أن حروف السبعة والتسعة مشتبهة ، فأزيل الإشكال بقوله : تلك عشرة كاملة ( البقرة : 196 ) ; لئلا يقرءوها " تسعة " فيصير العدد اثني عشر ، ونظير هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن لله تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا ; لإزالة إلباس التسعة والتسعين بالسبعة والسبعين ، لكن مثل هذا مأمون في القرآن ; لأن الله حفظه .

التالي السابق


الخدمات العلمية