الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              13 (باب فرض الصلاة).

                                                                                                                              وقال النووي في الجزء الأول من شرحه لمسلم: (باب السؤال عن أركان الإسلام).

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم النووي ص 169- 171 ج1 المطبعة المصرية.

                                                                                                                              [حدثني عمرو بن محمد بن بكير الناقد. ، حدثنا هاشم بن القاسم "أبو النضر". ، حدثنا سليمان بن المغيرة، ، عن ثابت، ، عن أنس بن مالك، قال: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء. فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية -العاقل- فيسأله ونحن نسمع. فجاء رجل من أهل البادية. فقال : يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك؟ قال "صدق".

                                                                                                                              قال: فمن خلق السماء؟ قال: "الله".
                                                                                                                              قال: فمن خلق الأرض؟ [ ص: 123 ] قال: "الله" قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: "الله".

                                                                                                                              قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال، آلله أرسلك؟ قال: "نعم" قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا. قال: "صدق".

                                                                                                                              قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم" قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا. قال: "صدق". قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم" قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا. قال: "صدق". قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا. قال: "صدق". قال: ثم ولى. قال: والذي بعثك بالحق! لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لئن صدق ليدخلن الجنة".]
                                                                                                                              .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح) .

                                                                                                                              (عن أنس بن مالك) رضي الله عنه: (قال: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء).

                                                                                                                              يعني سؤال ما لا ضرورة إليه. كما في الحديث الآخر: "سلوني" أي: عما تحتاجون إليه.

                                                                                                                              [ ص: 124 ] (فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية) يعني: من لم يكن بلغه النهي عن السؤال.

                                                                                                                              (العاقل) لكونه أعرف بكيفية السؤال، وآدابه، والمهم منه، وحسن المراجعة.

                                                                                                                              فإن هذه أسباب عظم قدر الانتفاع بالجواب. ولأن أهل البادية هم "الأعراب"، ويغلب فيهم الجهل، والجفاء. ولهذا جاء في الحديث "من بدا جفا".

                                                                                                                              "والبادية"، "والبدو" بمعنى؛ وهو ما عدا الحاضرة والعمران.

                                                                                                                              والنسبة إليها "بدوي".

                                                                                                                              "والبداوة" الإقامة "بالبادية". وهي بكسر الباء عند جمهور أهل اللغة.

                                                                                                                              وقال "أبو زيد": هي بفتح الباء.

                                                                                                                              قال ثعلب: لا أعرف "البداوة" بالفتح إلا عن "أبي زيد".

                                                                                                                              (فيسأله صلى الله عليه وسلم، ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية) اسمه: "ضمام بن ثعلبة" بكسر الضاد المعجمة. كذا جاء مسمى في رواية البخاري وغيره.

                                                                                                                              (فقال: يا محمد!) ولعل هذا كان قبل النهي عن مخاطبته باسمه، قبل نزول قول الله عز وجل: ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) .

                                                                                                                              [ ص: 125 ] على أحد التفسيرين؛ أي: لا تقولوا: يا محمد! بل: يا نبي الله! ويا رسول الله!

                                                                                                                              ويحتمل أن يكون بعد نزول الآية، ولم تبلغ الآية هذا القائل.

                                                                                                                              (أتانا رسولك، فزعم لنا: أنك تزعم: أن الله أرسلك. قال: "صدق").

                                                                                                                              "زعم، وتزعم" مع تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه، دليل على أن "زعم" ليس مخصوصا بالكذب، والقول المشكوك فيه. بل يكون أيضا في القول المحقق، والصدق الذي لا شك فيه.

                                                                                                                              وقد جاء من هذا كثير في الأحاديث.

                                                                                                                              وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "زعم جبريل كذا".

                                                                                                                              وقد أكثر "سيبويه" (وهو إمام العربية) في "كتابه" الذي هو إمام كتب العربية، من قوله: زعم الخليل. زعم أبو الخطاب. يريد بذلك "القول المحقق".

                                                                                                                              وقد نقل ذلك جماعة من أهل العربية وغيرهم، ونقله أبو عمر الزاهد في "شرح الفصيح"، عن شيخه "ثعلب"، عن العلماء باللغة؛ من أهل الكوفة، والبصرة، والله أعلم.

                                                                                                                              (قال: فمن خلق السماء؟ قال: "الله". قال: فمن خلق الأرض؟ قال: "الله". قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: "الله". قال: فبالذي خلق السماء، وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال. آلله أرسلك؟ قال: نعم).

                                                                                                                              [ ص: 126 ] هذه، والتي تأتي، تدل على أنواع من العلم.

                                                                                                                              قال صاحب التحرير: هذا من أحسن سؤال هذا الرجل، وملاحة سياقته، وترتيبه. فإنه سأل أولا عن صانع المخلوقات من هو؟ ثم أقسم عليه به أن يصدقه في كونه رسولا للصانع. ثم لما وقف على رسالته، وعلمها أقسم عليه بحق مرسله؛ وهذا ترتيب يفتقر إلى "عقل رصين".

                                                                                                                              ثم إن هذه الأيمان جرت للتأكيد، وتقرير الأمر، لا لافتقاره إليها، كما أقسم الله تعالى على أشياء كثيرة انتهى.

                                                                                                                              (قال: وزعم رسولك؛ أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا.

                                                                                                                              قال: "صدق").

                                                                                                                              قال عياض: الظاهر أن هذا الرجل لم يأت إلا بعد إسلامه، وإنما جاء مستثبتا، ومشافها للنبي صلى الله عليه وسلم انتهى.

                                                                                                                              وهذا موضع الدلالة من الحديث، لأن في "علينا" معنى الفرض والوجوب.

                                                                                                                              "وفيه" أن الصلوات الخمس متكررة في كل يوم وليلة، وهو معنى قوله: (في يومنا وليلتنا).

                                                                                                                              (قال: فبالذي أرسلك! آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم". قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا. قال: "صدق").

                                                                                                                              "والزكاة" واجبة في كل سنة، بعد حولان "الحول".

                                                                                                                              [ ص: 127 ] (قال: فبالذي أرسلك! آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم". قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في "سنتنا". قال: "صدق"). أي: أنه يجب في كل سنة.

                                                                                                                              (قال: فبالذي أرسلك! آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم". قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا. قال: "صدق").

                                                                                                                              "والحج" في العمر مرة لمن استطاع. قال تعالى: ( ولله على الناس حج البيت ) الآية.

                                                                                                                              (قال: ثم ولى، قال: والذي بعثك بالحق! لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لئن صدق ليدخلن الجنة").

                                                                                                                              وفي حديث طلحة عند مسلم، في قصة رجل من أهل نجد: "أفلح وأبيه! إن صدق"، أو "دخل الجنة وأبيه! إن صدق".

                                                                                                                              وفي حديث أبي هريرة، في قصة الأعرابي عند مسلم: "قال: والذي نفسي بيده! لا أزيد على هذا شيئا أبدا، ولا أنقص منه، فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا".

                                                                                                                              "وفيه" أن الصلاة التي هي ركن من أركان الإسلام، وشعيرة من [ ص: 128 ] شعائر الإيمان والإحسان، التي هي أطلقت في باقي الأحاديث هي: "الصلوات الخمس".

                                                                                                                              وأنها في كل يوم وليلة، على كل مكلف بها.

                                                                                                                              "وفيه" ما تقدم في كتاب الإيمان من مسائل هذا الحكم.

                                                                                                                              وفي حديث ابن عباس عند مسلم؛ في ذكر بعث معاذ إلى اليمن: "أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم".

                                                                                                                              قال ابن الصلاح: "وفيه" دلالة لصحة ما ذهب إليه أئمة العلماء من أن العوام المقلدين مؤمنون.

                                                                                                                              وأنه يكتفى منهم بمجرد اعتقاد الحق "جزما" من غير شك، وتزلزل. خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة.

                                                                                                                              وذلك أنه صلى الله عليه وسلم قرر ضماما على ما اعتمد عليه في تعريف رسالته، وصدقه، ومجرد إخباره إياه بذلك. ولم ينكر عليه ذلك. ولا قال: يجب عليك معرفة ذلك بالنظر في معجزاتي، والاستدلال بالأدلة القطعية انتهى.

                                                                                                                              قلت: وهذا الذي قاله عليه جماهير أهل العلم بالحديث، والأصول؛ والفقه؛ ومحققو الكلام. إلا من لا يعتد به من أهل الرأي؛ والكلام.

                                                                                                                              [ ص: 129 ] قال النووي: "وفي هذا الحديث" العمل بخبر الواحد. "وفيه" غير ذلك.

                                                                                                                              وما قاله من العمل بخبر الواحد: هو الذي ذهب إليه أهل العلم بالأصول، وحققه الفحول، كما حررناه في "حصول المأمول، من علم الأصول".

                                                                                                                              وحققه العلامة، الرباني؛ الإمام الشوكاني، في: "إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول"، "وفي الحديث، أيضا فرض الزكاة، وصوم رمضان، والحج، كما "فيه" فرض الصلاة.




                                                                                                                              الخدمات العلمية