الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2396 [ ص: 173 ] 8 - باب: أم الولد قال أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أشراط الساعة أن تلد الأمة ربها".

                                                                                                                                                                                                                              2533 - حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: حدثني عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها قالت: إن عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن يقبض إليه ابن وليدة زمعة، قال عتبة: إنه ابني. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الفتح أخذ سعد ابن وليدة زمعة، فأقبل به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل معه بعبد بن زمعة، فقال سعد: يا رسول الله، هذا ابن أخي، عهد إلي أنه ابنه. فقال عبد بن زمعة: يا رسول الله، هذا أخي ابن وليدة زمعة، ولد على فراشه. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن وليدة زمعة، فإذا هو أشبه الناس به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو لك يا عبد بن زمعة". من أجل أنه ولد على فراش أبيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتجبي منه يا سودة بنت زمعة". مما رأى من شبهه بعتبة. وكانت سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم . [انظر: 2053 - مسلم: 1457 - فتح: 5 \ 163]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              هذا سلف من عند البخاري مسندا في كتاب الإيمان فراجعه.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن التين: معناه: أن تكثر السراري في آخر الزمان فيكون ابن الأمة مولاها، وقيل: هو أن يستطيل الولد على أمه ولا يبرها، فكأنه ربها.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق حديث عائشة في قصة الوليدة. وقوله: "هو لك يا عبد بن زمعة"؛ من أجل أنه ولد على فراش أبيه.. إلى آخره.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 174 ] وقد سلف واضحا، ويريد هنا أن الأمة أشكل عليها معنى قصة عتبة، وتأولوا فيه ضروبا من التأويل؛ لخروجه عن الأصول المجمع عليها، منها:

                                                                                                                                                                                                                              أن الأمة متفقة أنه لا يدعي أحد عن أحد إلا بوكالة من المدعي، ولم يذكر في الحديث توكيل عتبة لأخيه سعد على ما ادعاه عنه.

                                                                                                                                                                                                                              ومنها: ادعاء عبد بن زمعة على أبيه، وكذا بقوله: "أخي، وابن وليدة أبي، ولد على فراشه" ولم يأت ببينة تشهد بإقرار أبيه، ولا يجوز أن تقبل دعواه على أبيه; لأنه لا يستلحق غير الأب؛ لقوله تعالى: ولا تكسب كل نفس إلا عليها [الأنعام: 164].

                                                                                                                                                                                                                              وقال الطحاوي: ذهب قوم إلى أن الأمة إذا وطئها مولاها فقد لزمه كل ولد يجيء بعد ذلك، ادعاه أو لم يدعه، هذا قول مالك والشافعي احتجاجا بهذا الحديث; لأنه عليه السلام قال: "هو لك يا عبد بن زمعة"، ثم قال: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" فألحقه بزمعة لا لدعوة ابنه; لأن دعوة الابن بالنسب بغيره من أبيه غير مقبولة، ولكن; لأن أمه كانت فراشا لزمعة بوطئه إياها.

                                                                                                                                                                                                                              واحتجوا أيضا بما رواه مالك عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد أن عمر بن الخطاب قال: ما بال رجال يطئون ولائدهم ثم يدعونهن يخرجن، لا تأتيني وليدة تقر أن سيدها قد ألم بها إلا ألحقت به ولدها، فأرسلوهن بعد أو أمسكوهن.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 175 ] وفي حديث آخر: ما بال رجال يطئون ولائدهم ثم يعزلونهن.

                                                                                                                                                                                                                              وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: ما جاءت به هذه الأمة فلا يلزم مولاها إلا أن يقر به، وإن مات قبل أن يقر به لم يلزمه، وهو قول الكوفيين.

                                                                                                                                                                                                                              واحتجوا على ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم، إنما قال لعبد بن زمعة: "هو لك" ولم يقل: هو أخوك، فيجوز أن يكون أراد بقوله: "هو لك" أي: هو مملوك لك بحق ما لك عليه من اليد، ولم يحكم في نسبه بشيء، والدليل على ذلك أمره سودة بالاحتجاب منه، فلو جعله ابن زمعة [لما حجب منه بنت زمعة]; لأنه لا يأمر بقطع الأرحام، وإنما كان يأمر بصلتها، ومن صلتها التزاور، وكيف يجوز أن يأمرها أن تحتجب من أخيها وهو يأمر عائشة أن تأذن لعمها من الرضاعة بالدخول عليها، ولكن وجه ذلك أنه لم يكن حكم فيه بشيء غير اليد التي جعلها لعبد ولسائر ورثة زمعة دون سعد.

                                                                                                                                                                                                                              واحتجوا أيضا بما رواه شعبة، عن عمارة بن أبي حفصة، عن عكرمة قال: كان ابن عباس يأتي جارية له فحملت، فقال: ليس هو مني، إني أتيتها إتيانا لا أريد به الولد.

                                                                                                                                                                                                                              وروى الثوري، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد أن أباه كان يعزل عن جارية فارسية فأتت بحمل فأنكره، وقال: إني لم أكن أريد ولدك وإنما استطبت نفسك، فجلدها وأعتقها.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 176 ] وقول ابن عباس وزيد خلاف ما روى عن عمر في ذلك أهل المقالة الأولى.

                                                                                                                                                                                                                              واختلفوا في معنى قوله: "هو لك يا عبد بن زمعة". فقالت طائفة: أي: أخوك كما ادعيته، قضاء منه في ذلك بعلمه; لأن زمعة بن قيس كان صهره عليه السلام، وسودة بنت زمعة كانت زوجته، فيمكن أن يكون علم أن تلك الأمة كان يمسها زمعة، فألحق ولدها به لما علم من فراشه، لا أنه قضى بذلك لاستحقاق عبد بن زمعة له.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الطحاوي: هو لك بيدك عليه، لا أنك تملكه، ولكن تمنع منه من سواك كما في اللقطة: هي لك بيدك عليها تدفع غيرك عنها حتى يجيء صاحبها، ليس على أنها ملك لك، ولما كان عبد بن زمعة له شريك فيما ادعاه، وهي أخته سودة، ولم يعلم منها تصديق له، ألزم ابن زمعة ما أقر به على نفسه، ولم يجعل ذلك حجة على أخته؛ إذ لم تصدقه، ولم تجعله أخاها، وأمرها بالحجاب منه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الطبري: هو لك ملك، لا أنه قضى له بنسبه، وعنه جوابان لابن القصار:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: أنه كان يدعي عبد بن زمعة أنه حر، وأنه أخوه ولد على فراش أبيه، فكيف يقضي له بالملك؟ ولو كان مملوكا لعتق بهذا القول.

                                                                                                                                                                                                                              وثانيهما: أنه لو قضى بالملك لم يقل: "الولد للفراش"; لأن المملوك لا يلحق الفراش، ولكان يقول: هو ملك لك.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 177 ] وقال المزني: يحتمل أن يكون أجاب فيه على المسألة، فأعلمهم بالحكم أن هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنا، لا أنه قبل قول سعد على أخيه، ولا على زمعة قول ابنه عبد بن زمعة أنه أخوه; لأن كل واحد منهما أخبر عن غيره، وقد قام الإجماع على أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره، فحكم بذلك ليعرفهم الحكم في مثله إذا نزل، وقد حكى الله تعالى مثل ذلك في قصة داود: إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض [ص: 22] ولم يكونا خصمين، ولا كان لواحد منهما تسع وتسعون نعجة، ولكنهم كلموه ليعرف ما أرادوا، فيحتمل أن يكون حكم في هذه القصة بنحو ذلك، ويحتمل أن تكون سودة جهلت ما علم أخوها عبد بن زمعة فسكتت، فلما لم يصح أنه أخ لعدم البينة بذلك، [أو] الإقرار فيمن يلزم إقراره وزاده بعدا شبهه بعتبة، أمرها بالاحتجاب منه، فكان جوابه عن السؤال لا على تحقيق زنا عتبة بقول أخيه، ولا بالولد أنه لزمعة لقول ابنه، بل قال: "الولد للفراش" على قولك يا عبد بن زمعة، لا على ما قال سعد، ثم أخبر بالذي يكون إذا ثبت مثل هذا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الكوفيون: قوله: "واحتجبي منه يا سودة" دليل أنه جعل للزنا حكما فحرم به رؤية ذلك المستلحق لأخته سودة. وقال لها: "احتجبي منه" فمنعها من أخيها في الحكم; لأنه ليس بأخيها في غير الحكم; لأنه من زنا في الباطن إذا كان شبيها بعتبة، فجعله كأنه أجنبي لا يراها بحكم الزنا، وجعله أخاها بالفراش، وزعموا أن ما حرم الحلال فالزنا أشد تحريما له.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 178 ] وقال الشافعي: رؤية

                                                                                                                                                                                                                              ابن زمعة لسودة مباح في الحكم، ولكنه كرهه للشبهة، وأمرها بالستر عنه اختيارا. وقال بعض أصحابه: يجوز للرجل أن يمنع زوجته من رؤية أخيها، وذهب إلى أنه أخوها على كل حال; لأنه قضى بالولد للفراش، وألحق ابن أمة زمعة بفراش زمعة، قالوا: وما حكم به فهو الحق. وفي قوله: "الولد للفراش" من الحكم: إلحاق الولد بصاحب الفراش في الحرة والأمة. وقوله: "وللعاهر الحجر"؛ أي: لا شيء له في الزاني إذا ادعاه صاحب الفراش، وهذه كلمة تقولها العرب.

                                                                                                                                                                                                                              واختلف السلف والخلف في عتق أم الولد وفي جواز بيعها، فالثابت عن عمر ما رواه مالك في "الموطأ"، عن نافع، عن عبد الله أن عمر قال: أيما وليدة ولدت من سيدها، فإنه لا يبيعها ولا يهبها ولا يورثها، وهو يستمتع منها فإذا مات فهي حرة.

                                                                                                                                                                                                                              وروي رفعه، أخرجه كذلك الدارقطني في "سننه".

                                                                                                                                                                                                                              وقال في "علله": وقفه هو الصحيح. والبيهقي. وقال: رفعه غلط.

                                                                                                                                                                                                                              وأما ابن القطان فقال: رواته كلهم ثقات. قال: وهو عندي حسن أو صحيح.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 179 ] وروى الدارقطني من حديث ابن عيينة، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن مسلم بن يسار، عن سعيد بن المسيب أن عمر أعتق أمهات الأولاد، وقال عمر: أعتقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                              ورواه ابن حبيب في "الواضحة". فقال: حدثني المقبري، عن ابن أنعم، عن مسلم، عن ابن المسيب، فذكر نحوه.

                                                                                                                                                                                                                              وعبد الرحمن هذا ضعفوه، وسعيد لم يسمع من عمر شيئا على الصحيح.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 180 ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 181 ] وقيل: سمع منه نعي النعمان بن مقرن، وقوله عند رؤية البيت كما رواه سعيد بن منصور.

                                                                                                                                                                                                                              ورواه الثوري في "جامعه" عن عبد الرحمن المذكور، عن مسلم بن يسار، قال: سألت سعيد بن المسيب عن عتق أمهات الأولاد، فقال: إن الناس يقولون: إن أول من أمر بعتق أمهات الأولاد عمر، وليس كذلك، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من أعتقهن فلا يجعلن في ثلث ولا يبعن في دين.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: وروي ذلك عن عثمان وعمر بن عبد العزيز.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عمر: وهو قول أكثر التابعين، منهم: الحسن ومحمد بن سيرين وعطاء ومجاهد وسالم وابن شهاب وإبراهيم، وإلى ذلك ذهب مالك والثوري والأوزاعي والليث وأبو حنيفة والشافعي في أكثر كتبه، وقد أجاز بيعها في بعض كتبه.

                                                                                                                                                                                                                              قال المزني: قطع في أربعة عشر موضعا من كتبه بالاتباع، وهو [ ص: 182 ] الصحيح من مذهبه وعليه جمهور أصحابه، وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور.

                                                                                                                                                                                                                              وكان الصديق وعلي وابن عباس وابن الزبير وجابر وأبو سعيد الخدري - يجيزون بيع أم الولد، وبه قال داود.

                                                                                                                                                                                                                              وقال جابر وأبو سعيد: كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر عبد الرزاق: أنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول: كنا نبيع أمهات الأولاد ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا لا نرى بذلك بأسا.

                                                                                                                                                                                                                              وأخبرنا ابن جريج، أنا عبد الرحمن بن الوليد أن أبا إسحاق الهمداني أخبره أن أبا بكر الصديق كان يبيع أمهات الأولاد في إمارته وعمر في نصف إمارته.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن مسعود: تعتق في نصيب ولدها، وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مارية سريته لما ولدت إبراهيم، قال: "أعتقها ولدها" من وجه ليس بالقوي ولا يثبته أهل الحديث، قال: وكذا حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما أمة ولدت من سيدها فإنها حرة إذا مات" لا يصح أيضا من جهة [ ص: 183 ] الإسناد; لأنه انفرد به حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس وهو متروك الحديث، عن عكرمة، عن ابن عباس. أخرجه أحمد وابن ماجه.

                                                                                                                                                                                                                              ورواه عن حسين شريك القاضي، وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي بكر؛ يعني: النهشلي، عن حسين هذا، كذا وقع وإنما هو عن أبي بكر بن أبي سبرة المتروك; كذا صرح به الدارقطني والبيهقي في روايتهما، قال البيهقي: وقد روى هذا الحديث أبو أويس عن حسين إلا أنه أرسله.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: قد وصله من طريق الدارقطني.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه الدارقطني من حديث أبي سارة عن ابن أبي حسين، عن عكرمة به. وأبو سارة هذا قال بعض الحفاظ: إنه ابن أبي سبرة، وابن أبي حسين هو حسين السالف.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه أيضا - أعني: الدارقطني- من حديث الحسن بن عيسى الحنفي عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعا.

                                                                                                                                                                                                                              ورواه ابن عيينة، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن عمر، قوله، وكذا رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه"، عن وكيع، عن أبيه، عن عكرمة،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 184 ] عن عمر، ورواه خصيف عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عمر، قال البيهقي: فرجع الحديث إلى قول ابن عباس عن عمر.

                                                                                                                                                                                                                              قال البيهقي: وهو الأصل في ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عمر: والصحيح عن عكرمة أنه سئل عن أم الولد، فقال: هي حرة إذا مات سيدها، فقيل له: عمن هذا؟ قال: عن القرآن؛ قال الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [النساء: 59].

                                                                                                                                                                                                                              وكان عمر من أولي الأمر، وقد قال: أعتقها ولدها ولو كان سقطا، رواه سعيد بن منصور. قلت: ورواه أبو محمد ابن حزم في "محلاه" بإسناد كل رجاله ثقات، من طريق قاسم بن أصبغ إلى عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس: لما ولدت مارية - أم إبراهيم- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتقها ولدها". وقال في كتاب البيع: صحيح الإسناد. وقال في أمهات الأولاد: خبر جيد السند كل رواته ثقات.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: وفي المسألة حديثان آخران:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: حديث أبي سعيد الخدري في البخاري ومسلم أيضا: يا رسول الله، إنا نصيب سبيا ونحب المال، كيف ترى في العزل؟ فقال عليه السلام: "أوإنكم تفعلون ذلك! لا عليكم أن لا تفعلوا، إنه ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلا وهي كائنة".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 185 ] ثانيهما: حديث البخاري عن عمرو بن الحارث، قال: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا، إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة، وذكره الحاكم وقال صحيح الإسناد.

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن عبيدة، عن علي قال: استشارني عمر في بيع أمهات الأولاد، فرأيت أنا وهو أنها إذا ولدت عتقت، فقضى به عمر حياته وعثمان بعده، فلما وليت رأيت أن أرقهن. قال الشعبي: فحدثني ابن سيرين أنه قال لعبيدة: فما ترى أنت؟ قال: رأي علي وعمر في الجماعة أحب إلي من قول علي حين أدرك الاختلاف.

                                                                                                                                                                                                                              وعند معمر، عن أيوب، عن محمد، قال عبيدة: قلت لعلي: رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة - أو قال: في الفتنة- قال: فضحك علي. قال ابن عبد البر: وقد انعقد الإجماع أنها لا تعتق قبل موت سيدها، وأنها في ديتها وأرش (جنايتها) كالأمة، وسئل ابن شهاب عن أم الولد ترق. فقال: لا يصلح لسيدها أن يبيعها ويقام عليها حد الأمة، وعن [ ص: 186 ] مجاهد: لا يرقها حدث. وقال عمر بن عبد العزيز: يقام عليها الحد ولا تسترق.

                                                                                                                                                                                                                              وروى معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي العجفاء، عن عمر أنها إذا زنت رقت.

                                                                                                                                                                                                                              وجمهور العلماء القائلين بأن أم الولد لا تباع على خلاف هذا، ويحصل من الخلاف في بيعها سبعة أقوال بعد الاتفاق على أنها لا تعتق بمجرد الاستيلاد في حياة سيدها، كما قاله ابن عبد البر.

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: أنه لا يجوز بيعها البتة، وهو مذهب الجمهور كما أسلفناه، وهو المشهور عن عمر الذي صار إليه في أثناء خلافته وعثمان، وعلي في أول أمره، وجابر والشعبي وحماد بن أبي سليمان ويحيى بن سعيد الأنصاري وأبو الزناد وربيعة وابن شبرمة والليث، وابن حزم وغيره من أهل الظاهر وغيرهم ممن سلف، وحكاه غير واحد إجماعا، منهم: الخطابي وابن بطال والبيهقي وابن عبد البر والباجي والغزالي والبغوي، وقد سلف بعضه، وقد استدل أيضا بقوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 187 ] فهل عسيتم إن توليتم [محمد: 22] ممن احتج بها عمر، كما رواه المنتجالي عنه والبيهقي أيضا. وقال ابن حبيب في "واضحته": حدثني الأويسي، عن إسماعيل بن عياش، عن مسلم بن يسار، عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بعتق أمهات الأولاد، وقال: "لا يجعلن في وصية، ولا يجعلن في دين" وهو معلول من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: أن جماعة من المالكية تكلموا في ابن حبيب كابن سحنون وغيره، واتهموه في لفظه.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: الكلام في إسماعيل لا سيما في روايته عن غير الشاميين.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: أنه مرسل، ولما أخرج الشافعي أثر "الموطأ" السالف، عن عمر قال: قلت: تقليدا لعمر. وفي "علل ابن أبي حاتم" مثله من رواية أبي هريرة، لكنه قال: إنه حديث باطل.

                                                                                                                                                                                                                              فرع: يجوز عندنا عتقها على مال، صرح به القفال من أصحابنا في "فتاويه".

                                                                                                                                                                                                                              المذهب الثاني: أنه يجوز بيعها مطلقا، وقد سلف، وهو مذهب جماعة من الصحابة كأبي بكر وخلائق، وهو قول قديم للشافعي.

                                                                                                                                                                                                                              الثالث: أنه يجوز لسيدها بيعها حياته، فإذا مات عتقت، حكي عن الشافعي أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 188 ] الرابع: أنها تباع في الدين، وفيه حديث سلامة بن معقل في "سنن أبي داود".

                                                                                                                                                                                                                              الخامس: أنها تباع، ولكن إن كان ولدها موجودا عند موت أبيه سيدها حسب من نصيبه إن كان ثم مشارك له في التركة، وهو مذهب ابن مسعود وابن عباس وابن الزبير.

                                                                                                                                                                                                                              السادس: أنه يجوز بيعها بشرط العتق، ولا يجوز بغيره، حكي عن عمر.

                                                                                                                                                                                                                              سابعها: أنها إن عتقت وأبقت لم يجز بيعها، وإن فجرت أو كفرت جاز بيعها، حكي عن عمر، وحكى المزني عن الشافعي التوقف، فهذا مع الفرع الذي ذكرناه تصير الأقوال تسعة، ومن الغريب ما أنبأني الحجار عامة: أنا ابن اللتبي، أنا أبو الفتح مسعود بن محمد بن سيف، أنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين المعروف بابن السراج، وأبو غالب محمد بن محمد بن عبد الله العطار قالا: أنا أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان، أنا أبو الحسن علي بن محمد بن الزبير القرشي، أنا الحسن بن علي بن عفان العامري، ثنا جعفر بن عون العمري، أنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أعتق الرجل أمته فإنه يجوز له وطؤها واستخدامها، ولا يجوز له بيعها ولا إجارتها ولا رهنها وولدها مثلها.

                                                                                                                                                                                                                              وهذا إسناد صحيح إليه، وقد يكون أراد أن يبين حكم أم الولد وغير ذلك بقوله: إذا أعتق الرجل وليدته كما جاء في الحديث عن مارية: "أعتقها ولدها".




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية