الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فلولا أنه كان من المسبحين ( 143 ) للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ( 144 ) فنبذناه بالعراء وهو سقيم ( 145 ) وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ( 146 ) )

يقول - تعالى ذكره - : ( فلولا أنه ) يعني يونس ( كان من ) المصلين لله قبل البلاء الذي ابتلي به من العقوبة بالحبس في بطن الحوت ( للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ) يقول : لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ، يوم يبعث الله فيه خلقه - محبوسا ، ولكنه كان من الذاكرين الله قبل البلاء ، فذكره الله في حال البلاء ، فأنقذه ونجاه .

وقد اختلف أهل التأويل في وقت تسبيح يونس الذي ذكره الله به ، فقال ( فلولا أنه كان من المسبحين ) فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك ، وقالوا مثل قولنا في معنى قوله ( من المسبحين )

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( فلولا أنه كان من المسبحين ) كان كثير الصلاة في الرخاء ، فنجاه الله بذلك قال : وقد كان يقال في الحكمة : إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا ما عثر ، فإذا صرع وجد متكأ .

حدثني يعقوب قال : ثنا ابن علية ، عن بعض أصحابه ، عن قتادة ، [ ص: 109 ] في قوله ( فلولا أنه كان من المسبحين ) قال : كان طويل الصلاة في الرخاء قال : وإن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر ، إذا صرع وجد متكئا .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : ثنا أبو النضر ، أن يزيد الرقاشي ، حدثه قال : سمعت أنس بن مالك قال : ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أن يونس النبي حين بدا له أن يدعو الله بالكلمات حين ناداه وهو في بطن الحوت ، فقال : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، فأقبلت الدعوة تحت العرش ، فقالت الملائكة : يا رب هذا صوت ضعيف معروف في بلاد غريبة قال : أما تعرفون ذلك ؟ قالوا يا رب ومن هو ؟ قال : ذلك عبدي يونس ، قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مستجابة ، قالوا : يا رب أولا يرحم بما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء ؟ قال : بلى ، فأمر الحوت فطرحه بالعراء " .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس ( فلولا أنه كان من المسبحين ) قال : من المصلين .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير ( فلولا أنه كان من المسبحين ) قال : من المصلين .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا ابن يمان ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ( فلولا أنه كان من المسبحين ) قال : كان له عمل صالح فيما خلا .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله ( من المسبحين ) قال : المصلين .

[ ص: 110 ] حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا كثير بن هشام قال : ثنا جعفر قال : ثنا ميمون بن مهران قال : سمعت الضحاك بن قيس يقول على منبره : اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة ، إن يونس كان عبدا لله ذاكرا ، فلما أصابته الشدة دعا الله فقال الله : ( لولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ) فذكره الله بما كان منه ، وكان فرعون طاغيا باغيا فلما أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ( آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) قال الضحاك : فاذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة .

قال أبو جعفر : وقيل : إنما أحدث الصلاة التي أخبر الله عنه بها ، فقال : ( فلولا أنه كان من المسبحين ) في بطن الحوت .

وقال بعضهم : كان ذلك تسبيحا ، لا صلاة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار قال : ثنا أبو داود قال : ثنا عمران القطان قال : سمعت الحسن يقول في قوله ( فلولا أنه كان من المسبحين ) قال : فوالله ما كانت إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت ، قال عمران : فذكرت ذلك لقتادة ، فأنكر ذلك وقال : كان والله يكثر الصلاة في الرخاء .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير : ( فالتقمه الحوت وهو مليم ) قال : قال ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) فلما قالها ، قذفه الحوت ، وهو مغرب .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ) : لصار له بطن الحوت قبرا إلى يوم القيامة .

[ ص: 111 ] حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن السدي ، عن أبي مالك قال : لبث يونس في بطن الحوت أربعين يوما .

وقوله ( فنبذناه بالعراء ) يقول : فقذفناه بالفضاء من الأرض ، حيث لا يواريه شيء من شجر ولا غيره ، ومنه قول الشاعر :


ورفعت رجلا لا أخاف عثارها ونبذت بالبلد العراء ثيابي



يعني بالبلد : الفضاء .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثني أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله ( فنبذناه بالعراء ) يقول : ألقيناه بالساحل .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( فنبذناه بالعراء ) بأرض ليس فيها شيء ولا نبات .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله ( بالعراء ) قال : بالأرض . وقوله ( وهو سقيم ) يقول : وهو كالصبي المنفوس : لحم نيء .

كما حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( وهو سقيم ) كهيئة الصبي .

[ ص: 112 ] حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يزيد بن زياد ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : خرج به ، يعني الحوت ، حتى لفظه في ساحل البحر ، فطرحه مثل الصبي المنفوس ، لم ينقص من خلقه شيء .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : ما لفظه الحوت حتى صار مثل الصبي المنفوس ، قد نشر اللحم والعظم ، فصار مثل الصبي المنفوس ، فألقاه في موضع ، وأنبت الله عليه شجرة من يقطين .

وقوله ( وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ) يقول - تعالى ذكره - : وأنبتنا على يونس شجرة من الشجر التي لا تقوم على ساق ، وكل شجرة لا تقوم على ساق كالدباء والبطيخ والحنظل ونحو ذلك ، فهي عند العرب يقطين .

واختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا في ذلك .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا هشيم ، عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير ، في قوله ( وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ) قال : هو كل شيء ينبت على وجه الأرض ليس له ساق .

حدثني مطر بن محمد الضبي قال : ثنا يزيد قال : ثنا الأصبغ بن زيد ، عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير ، في قوله ( وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ) قال : كل شيء ينبت ثم يموت من عامه .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ( شجرة من يقطين ) فقالوا عنده : القرع قال : وما يجعله أحق من البطيخ .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، [ ص: 113 ] عن مجاهد قوله ( شجرة من يقطين ) قال : غير ذات أصل من الدباء ، أو غيره من نحوه . وقال آخرون : هو القرع .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله ( وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ) قال : القرع .

حدثنا محمد بن المثنى قال : ثنا محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله ، أنه قال في هذه الآية : ( وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ) قال : القرع .

حدثني مطر بن محمد الضبي قال : ثنا عبد الله بن داود الواسطي قال : ثنا شريك ، عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي ، في قوله ( وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ) قال : القرع .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ) : كنا نحدث أنها الدباء ، هذا القرع الذي رأيتم أنبتها الله عليه يأكل منها .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : ثني أبو صخر قال : ثني ابن قسيط ، أنه سمع أبا هريرة يقول : طرح بالعراء ، فأنبت الله عليه يقطينة ، فقلنا : يا أبا هريرة وما اليقطينة ؟ قال : الشجرة الدباء ، هيأ الله له أروية وحشية تأكل من خشاش الأرض - أو هشاش - فتفشح عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت . وقال ابن أبي الصلت قبل الإسلام في ذلك بيتا من شعر :


فأنبت يقطينا عليه برحمة     من الله لولا الله ألفي ضاحيا

[ ص: 114 ] حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال : ثنا فضيل بن عياض ، عن مغيرة في قوله ( وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ) قال : القرع .

حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( شجرة من يقطين ) قال : القرع .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : أنبت الله عليه شجرة من يقطين قال : فكان لا يتناول منها ورقة فيأخذها إلا أروته لبنا ، أو قال : شرب منها ما شاء حتى نبت .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله ( شجرة من يقطين ) قال : هو القرع ، والعرب تسميه الدباء .

حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال : ثنا مروان بن معاوية ، عن ورقاء ، عن سعيد بن جبير في قول الله : ( وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ) قال : هو القرع .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد قوله ( وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ) قال : القرع .

وقال آخرون : كان اليقطين شجرة أظلت يونس .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 115 ] حدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ثابت بن يزيد ، عن هلال بن خباب عن سعيد بن جبير قال : اليقطين شجرة سماها الله يقطينا أظلته ، وليس بالقرع . قال : فيما ذكر أرسل الله عليه دابة الأرض ، فجعلت تقرض عروقها ، وجعل ورقها يتساقط حتى أفضت إليه الشمس وشكاها ، فقال : يا يونس جزعت من حر الشمس ، ولم تجزع لمائة ألف أو يزيدون تابوا إلي ، فتبت عليهم ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية