الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( المسألة الثانية ) وعد الله تعالى ووعيده وقع لابن نباتة في خطبة " الحمد لله الذي إذا وعد وفى وإذا أوعد تجاوز وعفا " وحسن ذلك عنده ما جرت العوائد به من التمدح بالوفاء في الوعد والعفو في الوعيد .

قال الشاعر :

وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

تمدح بهما ، وقد أنكر العلماء على ابن نباتة ذلك ، وتقرير الإنكار أن كلامه هذا يشعر بثبوت الفرق بين وعد الله تعالى ووعيده .

والفرق بينهما محال عقلا ؛ لأنه إن أريد بالوعد والوعيد صورة اللفظ وما دل عليه بوضعه اللغوي من العموم فإنهما سواء في جواز دخول التخصيص فيهما ، فكما دخل التخصيص في قوله تعالى { ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } بمن عفي عنه تفضلا أو بالتوبة أو غير ذلك فلم ير شرا مع عمله له فكذلك دخل التخصيص في قوله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } بمن حبط عمله بردته وسوء خاتمته أو أخذت أعماله في الظلامات بالقصاص وغيره ، فلم ير خيرا مع أنه عمله ، وكذلك جميع إخبارات الوعيد والوعد يخرج منها من لم يرد باللفظ ويبقى المراد فلا فرق بينهما من هذا الوجه ، وإن أريد بالوعد والوعيد من أريد بالخطاب ومن قصد بالإخبار عنه بالنعيم أو العقاب فيستحيل أن من أراده الله تعالى بالخبر أن لا يقع مخبره .

وإلا لحصل الخلف المستحيل عقلا على الله تعالى بل يجب حصول النعيم لمن أراده الله تعالى بالإخبار عن نعيمه وحصول العقاب لمن أراده الله تعالى بالإخبار عن عقابه لئلا يلزم الخلف فحينئذ لا فرق بينهما أيضا فإن قلت إن أريد بالوعيد صورة العموم وهو قابل للتخصيص وبالوعد من أريد بالخطاب فإنه يتعين فيه الوفاء بذلك الموعود يندفع المحال ، وتصح هذه العبارة قلت هذا يمكن غير أنه يوهم أن الله تعالى يعفو عمن أريد بالوعيد ولا يقتصر المفهوم على التخصيص فقط كما جرت به العادة من التمدح بالعفو وإن أكذب أحدنا نفسه كما قال الشاعر :

فإن الكذب جائز علينا     ونمدح به ويحسن منا في مواطن

وهو محال على الله تعالى وإذا أوهم مثل هذا حرم إطلاقه ؛ لأن إطلاق ما يوهم محالا على الله تعالى حرام .

( المسألة الثالثة ) إذا فرضنا رجلا صادقا على الإطلاق وهو زيد فقلنا [ ص: 58 ] زيد ومسيلمة الحنفي صادقان أو كاذبان استحال في هذا الخبر أن يكون صادقا ، وإلا لصدق مسيلمة في قولنا هما صادقان أو لكذب زيد في قولنا هما كاذبان .

ويستحيل أيضا أن يكون هذا الخبر كاذبا للزوم صدق مسيلمة في قولنا هما كاذبان أو كذب زيد في قولنا هما صادقان ، لكن كذب زيد محال لأن الفرض خلافه وإذا ارتفع عنه الصدق والكذب لزم ارتفاع النقيضين كما تقدم تقريره قبل هذا فيمن قال : أنا كاذب في بيت لم يتكلم فيه إلا بهذا الكلام وقد تقدم مبسوطا ، ويلزم أيضا وجود الخبر بدون خصيصته وهو قبول الصدق والكذب وهو محال أيضا .

والجواب قال الإمام فخر الدين في باب الإخبار أن هذا الخبر في قوة خبرين فإذا قلنا زيد ومسيلمة صادقان فتقديره زيد صادق ومسيلمة صادق والأول خبر صادق والثاني خبر كاذب ، وكذلك إذا قلنا كاذبان صدق مفهوم الكذب في مسيلمة وكذب في زيد ، وهذا الجواب يبطل بتضييق الفرض بأن نقول المجموع صادق أو كاذب ونجعل الخبر عن المجموع ، وهو مفرد في اللفظ أو يقول المتكلم أردت المجموع والإخبار عنه ، ولم أرد الإخبار عن كل واحد منهما فيبطل هذا الجواب .

والجواب الحق أن نلتزم في قولنا هما صادقان أنه كذب ، وتقريره أن الكذب نقيض الصدق كما تقدم تقريره فإنه عدم المطابقة الذي هو نقيض المطابقة ، والمتكلم أخبر عن حصول المطابقة في المجموع وفي كل واحد منهما ، وليست كذلك لأن الحقيقة تنتفي بانتفاء جزئها فتنتفي المطابقة في المجموع بنفيها في أحدهما ولا نشك أنها منفية في أحدهما فيكون الحق نفي المطابقة في المجموع فيكون الخبر كذبا ، وكذلك إذا قلنا هما كاذبان فإنا أخبرنا عن ثبوت عدم المطابقة في كل واحد منهما ، وإذا قال قائل العدم يشمل زيدا وعمرا كذب خبره هذا بوجود أحدهما فإن مجموع العدمين ينتفي بانتفاء جزئه كما ينتفي مجموع الثبوت ، وقد أشار فخر الدين إلى أن الخبر يكون كذبا غير أنه لم يبسط تقريره .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

[ ص: 57 ] قال شهاب الدين : ( المسألة الثانية وعد الله تعالى ووعيده وقع لابن نباتة في خطبة " الحمد لله الذي إذا وعد وفى ، وإذا أوعد تجاوز وعفا إلى آخر المسألة ) قلت : جزم الشهاب بخطأ ابن نباتة ويمكن أن يخرج لكلامه وجه ، وهو أن وعد الله لا يخصصه إلا الردة لا غير ووعيده يخصصه الإيمان ، وهو نظير الردة والتوبة والشفاعة والمغفرة ولا مقابل لها في جهة الوعد فلما كان الوعد مخصصاته أقل من مخصصات الوعيد صح أن يفرق بينهما بناء على ذلك ، وما ذكره من إيهام العفو عمن أريد بالوعيد ليس من الإيهام الممنوع والله أعلم .

قال شهاب الدين ( المسألة الثالثة إذا فرضنا رجلا صادقا على الإطلاق وهو زيد فقلنا [ ص: 58 ] زيد ومسيلمة صادقان أو كاذبان استحال ذلك إلى آخر تقرير الإشكال ، ثم ذكر جواب الفخر بأنه في قوة خبرين أحدهما صادق والآخر كاذب ورد الجواب بتضييق الفرض في السؤال عن المجموع ، أو يقول المتكلم أردت المجموع .

وأجاب بأنه خبر كاذب ، وأنه إن أراد كل واحد منهما فهو خبر كاذب ، وإن أراد المجموع فكذلك ؛ لأن الحقيقة الكلية تنتفي بانتفاء جزئها ) قلت ما قاله جواب حسن بناء على أن الخبر لا بد أن يكون صدقا أو كذبا وأما أنه لا يخلو عنهما فلا إشكال .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( المسألة الثانية )

قال الإمام فخر الدين في باب الإخبار إن قولك إذا فرضت صدق زيد مثلا على الإطلاق زيد ومسيلمة الحنفي صادقان أو كاذبان في قوة خبرين تقديرهما على الأول زيد صادق ومسيلمة صادق ، وعلى الثاني زيد كاذب ومسيلمة كاذب فيصدق مفهوم الكذب في مسيلمة ويكذب في زيد ، ومفهوم الصدق بالعكس لا خبر واحد حتى يلزمه ارتفاع الصدق والكذب لاستحالة أن يكون صادقا ، وإلا لصدق مسيلمة في قولك هما صادقان أو لكذب زيد في قولك هما كاذبان ، وأن يكون كاذبا وإلا لصدق مسيلمة على الأول أو لكذب زيد على الثاني . ا هـ

ولا يخفى أنه يبطل بتضييق الفرض بأن نقول المجموع صادق أو كاذب ونجعل الخبر عن المجموع وهو مفرد في اللفظ ، أو يقول المتكلم أردت المجموع والإخبار عنه ولم أرد الإخبار عن كل واحد منهما فالحق كما أشار إليه الفخر أن نلتزم في هما صادقان أو هما كاذبان أن الخبر كذب ؛ لأن المتكلم أخبر في الأول عن حصول المطابقة في المجموع وفي كل واحد منهما وفي الثاني عن ثبوت عدم المطابقة في المجموع وفي كل واحد منهما ، وليس الأمر كذلك لانتفاء حقيقة كل من الصدق والكذب بانتفاء جزئها فتنتفي المطابقة في المجموع بنفيها في أحدهما ، وكذلك ينتفي ثبوت عدم المطابقة في المجموع بنفيه في أحدهما ولا شك في انتفاء المطابقة أو ثبوت عدمها في واحد منهما فيكون الحق نفي ذلك في المجموع إذ لا فرق بين مجموع الوجودين ومجموع العدمين في قولك : الوجود يشمل زيدا [ ص: 55 ] وعمرا ، وقولك : العمد يشمل زيدا وعمرا في كون كل ينتفي بانتفاء جزئه بأن يعدم أحدهما في الأول ويوجد في الثاني فيكون الخبر كذبا فافهم والله أعلم .

( المسألة الثالثة ) الفرق بين وعد الله تعالى ووعيده محال عقلا سواء أريد بهما صورة اللفظ وما دل عليه بوضعه اللغوي من العموم ، أو أريد بهما من أريد بالخطاب ومن قصد بالإخبار عنه بالنعيم أو العقاب أما على الأول فإنهما سواء في جواز دخول التخصيص فيها فجميع إخبارات الوعيد والوعد يخرج منها من لم يرد باللفظ .

ويبقى المراد ألا ترى أنه كما دخل التخصيص في وعيده تعالى بقوله تعالى { ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } بمن عفي عنه تفضلا أو بالتوبة أو غير ذلك فلم ير شرا مع عمله له ، كذلك دخل التخصيص في وعده تعالى بقوله { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } بمن حبط عمله بردته وسوء خاتمته أو أخذت أعماله في الظلامات بالقصاص وغيره فلم ير خيرا مع أنه عمله .

وأما على الثاني فلأنه يستحيل أن لا يقع مخبره تعالى من وعيد أو وعد على من أراده تعالى بخبره وإلا لحصل الخلف المستحيل عقلا على الله تعالى بل يجب حصول النعيم أو العذاب لمن أراده الله تعالى بالإخبار عن نعيمه أو عقابه لئلا يلزم الخلف نعم يمكن أن يراد بالوعيد صورة العموم فيكون قابلا للتخصيص وبالوعد من أريد بالخطاب فيتعين فيه الوفاء بذلك الموعود ، وعليه يندفع المحال في الفرق بينهما ، ويصح ما وقع لابن نباتة في خطبة الحمد لله الذي إذا وعد وفى وإذا أوعد تجاوز وعفا نظرا لما جرت العوائد به من التمدح بالوفاء في الوعد والعفو في الوعيد كما في قول الشاعر :

وإني إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

إذ يمكن أن يخرج لكلامه وجه ، وهو أن وعد الله لا يخصصه إلا الردة لا غير ووعيده يخصصه الإيمان وهو نظير الردة والتوبة والشفاعة والمغفرة ولا مقابل لها في جهة الوعد ، فلما كانت مخصصات الوعد أقل من مخصصات الوعيد صح أن يفرق بينهما بما ذكر ، وليس من الإيهام الممنوع إيهام مثل هذا أن الله تعالى يعفو عمن [ ص: 56 ] أريد بالوعيد ولا يقتصر المفهوم على التخصيص فقط كما جرت به العادة من التمدح بالعفو ، وإن أكذب أحدنا نفسه كما قال الشاعر :

لمخلف إيعادي فإن الكذب جائز علينا ونمدح به ويحسن منا في مواطن

وهو محال على الله تعالى فبطلت كليته الكبرى التي هي شرط إنتاج الشكل الأول في القياس القائل مثل قول ابن نباتة المذكور إطلاق لما يوهم محالا على الله تعالى وإطلاق ما يوهم محالا على الله تعالى حرام ، فمثل قول ابن نباتة المذكور حرام فافهم والله أعلم .




الخدمات العلمية