الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مسألة : ( ويأتي المشعر الحرام فيقف عنده ، ويدعو ، ويكون من دعائه : اللهم كما وقفنا فيه ، وأريتنا إياه ، فوفقنا لذكرك كما هديتنا ، واغفر لنا ، وارحمنا كما وعدتنا بقولك ، وقولك الحق : ( فإذا أفضتم من عرفات ) الآيتين إلى أن يسفر ، ثم يدفع قبل طلوع الشمس ) .

قال أبو عبد الله - في رواية المروذي - : فإذا برق الفجر فصل الفجر مع الإمام إن قدرت ، ثم قف مع الإمام في المشعر الحرام ، وتقول : اللهم أنت خير مطلوب منه .. إلى آخره .

اعلم أن المشعر الحرام - في الأصل - : اسم للمزدلفة كلها ، وهو المراد ; لأن عرفة هي المشعر الحلال ، وسمي جمعا ; لأن الصلاتين تجمع بها ، كأن [ ص: 519 ] الأصل موضع جمع ، أو ذات جمع ، ثم حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه .

وروى سعيد بن أبي عروبة - في مناسكه - عن قتادة في قوله : ( فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) قال : هي ليلة جمع ، ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : " ما بين الجبلين مشعر " .

وعن عمرو بن ميمون قال : " سألت عبد الله بن عمرو بن العاص ونحن بعرفة عن المشعر الحرام ؟ قال : إن اتبعتني أخبرتك ، فدفعت معه حتى إذا وضعت الركاب أيديها في الحرم ، قال : هذا المشعر الحرام ، قلت : إلى أين ؟ قال : إلى أن تخرج منه " رواه الأزرقي وغيره بإسناد صحيح .

ويبين ذلك : أن الله أمر بذكره عند المشعر الحرام ، فلا بد من أن يشرع امتثال هذا الأمر ، وإنما شرع من الذكر : صلاة المغرب والعشاء والفجر ، والوقوف للدعاء غداة النحر ، وهذا الذكر كله يجوز في مزدلفة كلها ; لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( هذا الموقف ومزدلفة كلها موقف ) فعلم أنها جميعا تدخل في مسمى المشعر الحرام .

[ ص: 520 ] ثم إنه خص بهذا الاسم قزح ; لأنه أخص تلك البقعة بالوقوف عنده والذكر ، وغلب هذا الاستعمال في عرف الناس حتى إنهم لا يكادون يعنون بهذا الاسم إلا نفس قزح ، وإياه عنى جابر بقوله - في حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ثم ركب القصوى حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة ، فدعا الله وكبره وهلله ووحده ، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، فدفع قبل أن تطلع الشمس ، وأردف الفضل بن عباس " . رواه مسلم .

وكثيرا ما يجيء في الحديث المشعر الحرام يعنى به نفس قزح .

وأما في عرف الفقهاء : فهو غالب عليه ، ونسبة هذا الجبل إلى مزدلفة كنسبة جبل الرحمة إلى عرفة .

إذا تبين هذا : فإن السنة أن يقف الناس غداة جمع بالمزدلفة يذكرون الله سبحانه ، ويدعونه كما صنعوا بعرفات إلى قبيل طلوع الشمس ; وهو موقف عظيم ومشهد كريم ، وهو تمام للوقوف بعرفة ، وبه تجاب المسائل التي توقفت بعرفة كالطواف بين الصفا والمروة مع الطواف بالبيت وأوكد ، قال تعالى : ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) ووقف النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بالناس .

[ ص: 521 ] وقد روى عباس بن مرداس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة ، فأجيب : قد غفرت لهم ما خلا المظالم ، فإني آخذ للمظلوم منه ، قال : أي ربي إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة وغفرت للظالم ، فلم يجب عشية عرفة ، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل ، قال : فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو تبسم ، فقال أبو بكر وعمر : بأبي أنت وأمي إن هذه الساعة ما كنت تضحك فيها ، فما الذي أضحكك ، أضحك الله سنك ؟ قال : إن عدو الله إبليس لما علم أن الله قد استجاب دعائي وغفر لأمتي أخذ التراب ، فجعل يحثو على رأسه ، ويدعو بالويل والثبور ; فأضحكني ما رأيت من جزعه " . رواه أبو داود ، وابن ماجه ، وعبد الله بن أحمد في مسند أبيه ، وابن أبي الدنيا .

وعن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا كان عشية عرفة باهى [ ص: 522 ] الله بالحاج فيقول لملائكته : " انظروا إلى عبادي شعثا غبرا قد أتوني من كل فج عميق يرجون رحمتي ومغفرتي : أشهدكم أني قد غفرت لهم إلا ما كان من تبعات بعضهم بعضا ، فإذا كان غداة المزدلفة ، قال الله لملائكته : أشهدكم أني قد غفرت لهم تبعات بعضهم بعضا ، وضمنت لأهلها النوافل " . رواه ابن أبي داود من حديث ابن أبي رواد عن نافع عنه .

وعن بلال بن رباح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له - غداة جمع : " يا بلال أسكت لنا أو أنصت الناس ، ثم قال : إن الله تطاول عليكم في جمعكم هذا ، فوهب مسيئكم لمحسنكم ، وأعطى محسنكم ما سأل ، ادفعوا باسم الله " رواه ابن ماجه .

التالي السابق


الخدمات العلمية