الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب ( 43 ) وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ( 44 ) )

اختلف أهل التأويل في معنى قوله ( ووهبنا له أهله ومثلهم معهم ) وقد ذكرنا اختلافهم في ذلك والصواب من القول عندنا فيه في سورة الأنبياء بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . فتأويل الكلام : فاغتسل وشرب ، ففرجنا عنه ما كان فيه من البلاء ، ووهبنا له أهله ، من زوجة وولد (ومثلهم معهم رحمة منا ) له ورأفة ( وذكرى ) يقول : وتذكيرا لأولي العقول ، ليعتبروا بها فيتعظوا .

وقد حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد ، إلا رجلان من إخوانه كانا من أخص إخوانه به ، كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه : تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين ، قال له صاحبه : وما ذاك ؟ قال : من ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به ، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له ، فقال أيوب : لا أدري ما تقول ، غير أن الله يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله ، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق قال : وكان يخرج إلى حاجته ، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأ عليها ، وأوحي إلى أيوب في مكانه : ( اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ) فاستبطأته ، فتلقته تنظر ، فأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء ، وهو على أحسن ما كان ، فلما رأته قالت : أي بارك الله فيك ، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى ، فوالله على ذلك ما رأيت أحدا [ ص: 212 ] أشبه به منك إذ كان صحيحا ؟ قال : فإني أنا هو قال : وكان له أندران : أندر للقمح ، وأندر للشعير ، فبعث الله سحابتين ، فلما كانت إحداهما على أندر القمح ، أفرغت فيه الذهب حتى فاض ، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض " .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ووهبنا له أهله ومثلهم معهم ) قال : قال الحسن وقتادة : فأحياهم الله بأعيانهم ، وزادهم مثلهم .

حدثني محمد بن عوف قال : ثنا أبو المغيرة قال : ثنا صفوان قال : ثنا عبد الرحمن بن جبير قال : لما ابتلي نبي الله أيوب - صلى الله عليه وسلم - بماله وولده وجسده ، وطرح في مزبلة ، جعلت امرأته تخرج تكسب عليه ما تطعمه ، فحسده الشيطان على ذلك ، وكان يأتي أصحاب الخبز والشوي الذين كانوا يتصدقون عليها ، فيقول : اطردوا هذه المرأة التي تغشاكم ، فإنها تعالج صاحبها وتلمسه بيدها ، فالناس يتقذرون طعامكم من أجل أنها تأتيكم وتغشاكم على ذلك ، وكان يلقاها إذا خرجت كالمحزون لما لقي أيوب ، فيقول : لج صاحبك ، فأبى إلا ما أتى ، فوالله لو تكلم بكلمة واحدة لكشف عنه كل ضر ، ولرجع إليه ماله وولده ، فتجيء ، فتخبر أيوب ، فيقول لها : لقيك عدو الله فلقنك هذا الكلام ، ويلك ، إنما مثلك كمثل المرأة الزانية إذا جاء صديقها بشيء قبلته وأدخلته ، وإن لم يأتها بشيء طردته ، وأغلقت بابها عنه! لما أعطانا الله المال والولد آمنا به ، وإذا قبض الذي له منا نكفر به ، ونبدل غيره! إن أقامني الله من مرضي هذا لأجلدنك مائة قال : فلذلك قال الله : ( وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث )

وقوله ( وخذ بيدك ضغثا ) يقول : وقلنا لأيوب : خذ بيدك ضغثا ، وهو ما يجمع من شيء مثل حزمة الرطبة ، وكملء الكف من الشجر أو الحشيش والشماريخ ونحو ذلك مما قام على ساق ، ومنه قول عوف بن الخرع :

[ ص: 213 ]

وأسفل مني نهدة قد ربطتها وألقيت ضغثا من خلا متطيب



وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثني عبد الله بن صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله ( وخذ بيدك ضغثا ) يقول : حزمة .

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ) قال : أمر أن يأخذ ضغثا من رطبة بقدر ما حلف عليه فيضرب به .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا ابن يمان ، عن ابن جريج عن عطاء في قوله ( وخذ بيدك ضغثا ) قال : عيدانا رطبة .

حدثنا أبو هشام الرفاعي قال : ثنا يحيى عن إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر عن أبيه ، عن مجاهد عن ابن عباس ( وخذ بيدك ضغثا ) قال : هو الأثل .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وخذ بيدك ضغثا ) . . الآية قال : كانت امرأته قد عرضت له بأمر ، وأرادها إبليس على شيء ، فقال : لو تكلمت بكذا وكذا ، وإنما حملها عليها الجزع ، فحلف نبي الله : لئن الله شفاه ليجلدنها مائة جلدة قال : فأمر بغصن فيه تسعة وتسعون قضيبا ، والأصل تكملة المائة ، فضربها ضربة واحدة ، فأبر نبي الله ، وخفف الله عن أمته ، والله رحيم .

[ ص: 214 ] حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( وخذ بيدك ضغثا ) يعني : ضغثا من الشجر الرطب ، كان حلف على يمين ، فأخذ من الشجر عدد ما حلف عليه ، فضرب به ضربة واحدة ، فبرت يمينه ، وهو اليوم في الناس يمين أيوب ، من أخذ بها فهو حسن .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ) قال : ضغثا واحدا من الكلأ فيه أكثر من مائة عود ، فضرب به ضربة واحدة ، فذلك مائة ضربة .

حدثني محمد بن عوف قال : ثنا أبو المغيرة قال : ثنا صفوان قال : ثنا عبد الرحمن بن جبير ( وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ) يقول : فاضرب زوجتك بالضغث ، لتبر في يمينك التي حلفت بها عليها أن تضربها ( ولا تحنث ) يقول : ولا تحنث في يمينك .

وقوله ( إنا وجدناه صابرا نعم العبد ) يقول : إنا وجدنا أيوب صابرا على البلاء ، لا يحمله البلاء على الخروج عن طاعة الله ، والدخول في معصيته ( نعم العبد إنه أواب ) يقول : إنه على طاعة الله مقبل ، وإلى رضاه رجاع .

التالي السابق


الخدمات العلمية