الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 319 ] المسألة السادسة

              قد تقدم أن لطالب العلم في طلبه أحوالا ثلاثة :

              أما الحال الأول ، فلا يسوغ الاقتداء بأفعال صاحبه كما لا يقتدى بأقواله ؛ لأنه لم يبلغ درجة الاجتهاد بعد ، فإذا كان اجتهاده غير معتبر ، فالاقتداء به كذلك ؛ لأن أعماله إن كانت باجتهاد منه فهي ساقطة ، وإن كانت بتقليد فالواجب الرجوع في الاقتداء إلى مقلده أو إلى مجتهد آخر ، ولأنه عرضة لدخول العوارض عليه من حيث لا يعلم بها ، فيصير عمله مخالفا ، فلا يوثق بأن عمله صحيح ، فلا يمكن الاعتماد عليه .

              وأما الحال الثالث ، فلا إشكال في صحة استفتائه ، ويجري الاقتداء بأفعاله على ما تقدم في المسألة قبلها .

              وأما الحال الثاني ، فهو موضع إشكال بالنسبة إلى استفتائه ، وبالنسبة إلى الاقتداء بأفعاله ، فاستفتاؤه جار على النظر المتقدم في صحة اجتهاده أو عدم صحته .

              وأما الاقتداء بأفعاله ، فإن قلنا بعدم صحة اجتهاده ، فلا يصح الاقتداء كصاحب الحال الأول ، وإن قلنا بصحة اجتهاده جرى الاقتداء بأفعاله على ما تقدم من التفصيل والنظر .

              هذا إذا لم يكن في أعماله صاحب حال ، فإن كان صاحب حال وهو [ ص: 320 ] ممن يستفتى ، فهل يصح الاقتداء به بناء على التفصيل المذكور أم لا ؟ وهل يصح استفتاؤه في كل شيء أم لا ؟

              كل هذا مما ينظر فيه ، فأما الاقتداء بأفعاله حيث يصح الاقتداء بمن ليس بصاحب حال ، فإنه لا يليق إلا بمن هو ذو حال مثله ، وبيان ذلك أن أرباب الأحوال عاملون في أحوالهم على إسقاط الحظوظ ، بالغون غاية الجهد في أداء الحقوق ، إما لسائق الخوف ، أو لحادي الرجاء ، أو لحامل المحبة ، فحظوظهم العاجلة قد سقطت من أيديهم بأمر شاغل عن غير ما هم فيه ، فليس لهم عن الأعمال فترة ، ولا عن جد السير راحة ، فمن كان بهذا الوصف ، فكيف يقدر على الاقتداء به من هو طالب لحظوظه مشاح في استقصاء مباحاته ؟

              وأيضا ، فإن الله تعالى سهل عليهم ما عسر على غيرهم ، وأيدهم بقوة منه على ما تحملوه من القيام بخدمته ، حتى صار الشاق على الناس غير شاق عليهم ، والثقيل على غيرهم خفيفا عليهم ، فكيف يقدر على الاقتداء بهم ضعيف المنة عن حمل تلك الأعباء ، أو مريض العزم في قطع مسافات النفس ، أو خامد الطلب لتلك المراتب العلية ، أو راض بالأوائل عن الغايات .

              فكل هؤلاء لا طاقة لهم باتباع أرباب الأحوال ، وإن تطوقوا ذلك زمانا ، فعما قريب ينقطعون ، والمطلوب الدوام ، ولذلك قال النبي - عليه الصلاة والسلام - : خذوا من العمل ما تطيقون ، فإن الله لن يمل حتى تملوا .

              [ ص: 321 ] وقال : أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل .

              وأمر بالقصد في العمل وأنه مبلغ ، وقال : إن الله يحب الرفق في الأمر كله .

              وكره العنف والتعمق والتكلف والتشديد ، خوفا من الانقطاع ، وقال : واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم [ الحجرات : 7 ] .

              ورفع عنا الإصر الذي كان على الذين من قبلنا ، فإذا كان الاقتداء بأرباب الأحوال آيلا إلى مثل هذا الحال ، لم يلق أن ينتصبوا منصب الاقتداء ، وهم كذلك ، ولا أن يتخذهم غيرهم أئمة فيه ، اللهم إلا أن يكون صاحب حال مثلهم ، وغير مخوف عليه الانقطاع ، فإذ ذاك يسوغ الاقتداء بهم على ما ذكر من التفصيل ، وهذا المقام قد عرفه أهله ، وظهر لهم برهانه على أتم وجوهه .

              وأما الاقتداء بأقواله إذا استفتي في المسائل ، فيحتمل تفصيلا ، وهو أنه لا يخلو إما أن يستفتى في شيء هو فيه صاحب حال أو لا ، فإن كان الأول جرى حكمه مجرى الاقتداء بأفعاله ، فإن نطقه في أحكام أحواله من جملة [ ص: 322 ] أعماله ، والغالب فيه أنه يفتي بما يقتضيه حاله ، لا بما يقتضيه حال السائل ، وإن كان الثاني ساغ ذلك ؛ لأنه إذ ذاك كأنما يتكلم من أصل العلم لا من رأس الحال ؛ إذ ليس مأخوذا فيه .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية