الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ ص: 196 ] إبطال حيلة لضمان البساتين ]

وكذلك قالوا : لا يجوز ضمان البساتين ، والحيلة على ذلك أن يؤجره الأرض ويساقيه على الثمر من كل ألف جزء على جزء ، وهذه الحيلة لا تتم إذا كان البستان وقفا وهو ناظره أو كان ليتيم ، فإن هذه المحاباة في المساقاة تقدح في نظره ووصيته .

فإن قيل : إنها تغتفر لأجل العقد الآخر وما فيه من محاباة المستأجر له ، فهذا لا يجوز له أن يحابي في المساقاة لما حصل للوقف واليتيم من محاباة أخرى ، وهو نظير أن يبيع له سلعة بربح ثم يشتري له سلعة بخسارة توازن ذلك الربح ، هذا إذا لم يبن أحد العقدين على الآخر ، فإن بنى عليه كانا عقدين في عقد ، وكانا بمنزلة سلف وبيع ، وشرطين في بيع ، وإن شرط أحد العقدين في الآخر فسدا ، مع أن هذه الحيلة لا تتم إلا على أصل من لم ير جواز المساقاة أو من خصها بالتحيل وحده ، ثم فيها مفسدة أخرى ، وهي أن المساقاة عقد جائز ، فمتى أراد أحدهما فسخها فسخها وتضرر الآخر ، ومفسدة ثانية ، وهي أنه يجب عليه تسليم هذا الجزء من ألف جزء من جميع ثمرة البستان من كل نوع من أنواعه .

وقد يتعذر عليه ذلك أو يتعسر ، إما بأن يأكل الثمرة أو يهديها كلها أو يبيعها على أصولها ، فلا يمكنه تسليم ذلك الجزء ، وهكذا يقع سواء ، ثم قد يكون ذلك الجزء من الألف يسيرا جدا ، فلا يطالب به عادة ، فيبقى في ذمته لليتيم وجهة الوقف ، إلى غير ذلك من المفاسد التي في هذه الحيلة ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أفقه من ذلك ، وأعمق علما ، وأقل تكلفا ، وأبر قلوبا ، فكانوا يرون ضمان الحدائق بدون هذه الحيلة ، كما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحديقة أسيد بن حضير ، ووافقه عليه جميع الصحابة ، فلم ينكره منهم رجل واحد ، وضمان البساتين كما هو إجماع الصحابة فهو مقتضى القياس الصحيح ، كما تضمن الأرض لمغل الزرع فكذلك تضمن الشجر لمغل الثمر ، ولا فرق بينهما ألبتة ; إذ الأصل هنا كالأرض هناك ، والمغل يحصل بخدمة المستأجر والقيام على الشجر كما يحصل بخدمته والقيام على الأرض ، ولو استأجر أرضا ليحرثها ويسقيها ويستغل ما ينبته الله تعالى فيها من غير بذر منه كان بمنزلة استئجار الشجر من كل وجه ، لا فرق بينهما ألبتة ، فهذا أفقه من هذه الحيلة ، وأبعد من الفساد ، وأصلح للناس ، وأوفق للقياس ، وهو اختيار أبي الوفاء ابن عقيل وشيخ الإسلام بن تيمية رضي الله عنهما ، وهو الصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية