الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان التقدير: فالذين رجعوا إليه طوعا في هذه الدار بعد هذا البيان والإظهار، وتركوا الجدال حجتهم ثابتة ولهم الرضا والنعيم المقيم، عطف عليه قوله مبتدئا بالموصول ليصله بما يفهم التجدد والاستمرار: والذين يحاجون أي يوردون تشكيكا على دينه الحق من الشبه ما يسمونه حججا، ولعل الإدغام يشير إلى أن أهل هذا الضرب منافقون يلقون شبههم في خفاء فتشربها قلوب أمثالهم فتصير أهوية فيضعف أمرها ويؤيده تقييد الدحوض بما عند الرب في الله أي في دين الملك الأعظم ليعيدوا الناس بعدما دخلوا في نور الهدى إلى ظلام الضلال.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت إقامة الحجة وإظهار المعجزة أمرا ملزما لجميع من بلغه [ ص: 278 ] الاستجابة لوصول الأمر إلى حد من البيان سقط معه الجدال، قال معلما إن ما كان في قوة الوجود يصح أن يطلق عليه أنه موجود، ومنبها بالجار على ذم هذا الجدال ولو قل زمنه: من بعد ما ولما كان المقصود مطلق الاستجابة لا من مجيب معين قال: استجيب له أي استجاب له الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار الناس كلهم بما يبين لهم مستجيبين بالقوة وإن لم يستجيبوا بالفعل، فإن الأمر قد ظهر غاية الظهور، ولم يبق إلا العناد، فهذه الجملة هي المراد والثمرة من قوله لا حجة بيننا وبينكم

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان من خالف ظاهره باطنه ضعيف الحجة هلهل النسج، قال معبرا بمبتدأ ثان مفردا للحجة إشارة إلى ضعفها: حجتهم أي التي زعموها حجة، وأخبر عن هذا المبتدأ الثاني ليكون هو وخبره خبرا عن الأول فقال: داحضة أي زالقة فهي ذاهبة غير ثابتة لأجل أنها في معارضة ما ظهوره كالشمس بل أجلى، والعبارة [ ص: 279 ] لفت إلى صفة الإحسان والعندية إشارة إلى شدة ظهور ما في حجتهم من الدحوض لأن عند للأمور الظاهرة المألوفة، وصفة التربية للعطف والرفق، والإضافة إلى ضميرهم تقتضي مزيد لطف وعطف، فهو إشارة إلى أنها هباء منثور عند تدقيق النظر ولا سيما إذا كان بصفة عزة وقهر وغضب، فالمعنى أن دحوضها ظاهر جدا ولو عوملوا بصفة الإحسان ولو خصوا بمزيد عطف وبر، فأين هذا مما لو قيل "لدى عليم قدير" فإنه يفهم أن دحوضها لا يدركه إلا بليغ العلم تام القدرة، وهو مع ذلك غريب فيصير فيه نوع مدح لحجتهم في الجملة: عند ربهم أي المحسن إليهم بإفاضة العقل الذي جعلهم به في أحسن تقويم، فمهما جردوه عن الهوى، دلهم على أن جميع ما كانوا فيه باطل، وفيه إشارة إلى أن أدنى ما يعذبهم به قطع إحسانه عنهم، وأنه يظهر بطلان ما سموه حجة لكل عاقل فيورثهم الخزي في الدنيا والعذاب في الأخرى على أن قطع إحسانه هو عند [ ص: 280 ] التأمل أعلى العذاب وعليهم زيادة على قطع الإحسان غضب أي عقوبة تليق بحالهم المذموم ووصفهم المذءوم ومنه الطرد، فهم مطرودون عن بابه، مبعودون عن جنابه، مهانون بحجابه. ولما أفهم التعبير ب "على" ذمهم باستعلاء النقم عليهم لم يشكل التعبير باللام، بل كان مفهما التهكم والملام فقال: ولهم أي مع ذلك عذاب شديد لا تصلون إلى إدراك حقيقة وصفه، والآية مشيرة إلى الانتصار على أهل الردة وضربهم بكل شدة لسوء منزلتهم عنده كما كشف عنه الحال عند ندب الصديق إليهم بالقتال رضي الله عنه وأرضاه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية