الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      لتستووا على ظهوره حيث عبر عن القرار على الجميع بالاستواء على الظهور المخصوص بالدواب والضمير - لما تركبون - وأفرد رعاية للفظ، وجمع ظهور مع إضافته إليه رعاية لمعناه، والظاهر أن لام (لتستووا) لام كي، وقال الحوفي : من أثبت لام الصيرورة جاز له [ ص: 68 ] أن يقول به هنا، وقال ابن عطية : هي لام الأمر، وفيه بعد من حيث استعماله أمر المخاطب بتاء الخطاب، وقد اختلف في أمره فقيل: إنه لغة رديئة قليلة لا تكاد تحفظ إلا في قراءة شاذة نحو (فبذلك فلتفرحوا) أو شعر نحو قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      لتقم أنت يا بن خير قريش



                                                                                                                                                                                                                                      وما ذكره المحدثون من قوله عليه الصلاة والسلام: لتأخذوا مصافكم يحتمل أنه من المروي بالمعنى، وقال الزجاج : إنها لغة جيدة، وأبو حيان على الأول وحكاه عن جمهور النحويين.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه أي تذكروها بقلوبكم معترفين بها مستعظمين لها ثم تحمدوا عليها بألسنتكم وهذا هو معنى ذكر نعمة الله تعالى عليهم على ما قال الزمخشري ، وحاصله أن الذكر يتضمن شعور القلب والمرور على اللسان فنزل على أكمل أحواله وهو أن يكون ذكرا باللسان مع شعور من القلب، وأما الاعتراف والاستعظام فمن نعمة ربكم لاقتضائه الإحضار في القلب لذلك وهذا عين الحمد الذي هو شكر في هذا المقام لا أنه يوجبه وإن كان ذلك التقرير سديدا أيضا، ومنه يظهر إيثاره على ثم تحمدوا إذا استويتم، ومن جوز استعمال المشترك في معنييه جوز هنا أن يراد بالذكر الذكر القلبي والذكر اللساني وهو كما ترى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كانت تلك النعمة متضمنة لأمر عجيب قال سبحانه: وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا أي وتقولوا سبحان الذي ذلله وجعله منقادا لنا متعجبين من ذلك، وليس الإشارة للتحقير بل لتصوير الحال وفيها مزيد تقرير لمعنى التعجب، والكلام وإن كان إخبارا على ما سمعت أولا يشعر بالطلب.

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج عبد بن حميد . وابن جرير . وابن المنذر . عن أبي مجلز قال: رأى الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وكرم وجههما رجلا ركب دابة فقال: سبحان الذي سخر لنا هذا فقال: أوبذلك أمرت؟ فقال: فكيف أقول؟ قال: الحمد لله الذي هدانا للإسلام الحمد لله الذي من علينا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم الحمد لله الذي جعلني في خير أمة أخرجت للناس ثم تقول: سبحان الذي سخر لنا هذا - إلى- مقرنين وهذا يومي إلى أن ليس المراد من النعمة نعمة التسخير، وأخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب أنه فسرها بنعمة الإسلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد . وأبو داود . والترمذي وصححه. والنسائي . وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتي بدابة فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله ثلاثا والله أكبر ثلاثا سبحان الذي سخر لنا هذا إلى لمنقلبون سبحانك لا إله إلا أنت قد ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقيل له: مم ضحكت يا أمير المؤمنين ؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت ثم ضحك فقلت: يا رسول الله مم ضحكت؟ فقال: يتعجب الرب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ويقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري، وفي حديث أخرجه مسلم . والترمذي . وأبو داود . والدارمي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر حمد الله تعالى وسبح وكبر ثلاثا ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا إلى لمنقلبون، وفي حديث أخرجه أحمد . وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من بعير إلا في ذروته شيطان فاذكروا اسم الله تعالى إذا ركبتموه كما أمركم، وظاهر النظم الجليل أن تذكر النعمة والقول المذكور لا يخصان ركوب الأنعام بل يعمانها والفلك، وذكر بعضهم أنه يقال: إذا ركبت السفينة بسم الله مجراها ومرساها - إلى- رحيم ويقال: عند النزول منها (اللهم [ ص: 69 ] أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين وما كنا له مقرنين أي مطيقين، وأنشد قطرب لعمرو بن معدي كرب:


                                                                                                                                                                                                                                      لقد علم القبائل ما عقيل     لنا في النائبات بمقرنينا



                                                                                                                                                                                                                                      وهو من أقرن الشيء إذا أطاقه، قال ابن هرمة :


                                                                                                                                                                                                                                      وأقرنت ما حملتني ولقلما     يطاق احتمال الصد يا دعد والهجر



                                                                                                                                                                                                                                      وحقيقة أقرنه وجده قرينته وما يقرن به لأن الصعب لا يكون قرينة للضعيف ألا ترى إلى قولهم في الضعيف لا تقرن به الصعبة، والقرن الحبل الذي يقرن به، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      وابن اللبون إذا ما لز في قرن     لم يستطع صولة البزل القناعيس



                                                                                                                                                                                                                                      وحاصل المعنى أنه ليس لنا من القوة ما يضبط به الدابة والفلك وإنما الله تعالى هو الذي سخر ذلك وضبطه لنا.

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج عبد بن حميد . وابن المنذر عن سليمان بن يسار أن قوما كانوا في سفر فكانوا إذا ركبوا قالوا: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وكان فيهم رجل له ناقة رزام فقال: أما أنا فلهذه مقرن فقمصت به فصرعته فاندقت عنقه، وقرئ (مقرنين) بتشديد الراء مع فتحها وكسرها وهما بمعنى المخفف.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية