الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن وجب عليه الحج فلم يحج حتى مات نظرت فإن مات قبل أن يتمكن من الأداء فسقط فرضه ، ولم يجب القضاء ، وقال أبو يحيى البلخي : يجب القضاء ، وأخرج إليه أبو إسحاق نص الشافعي رحمه الله فرجع عنه ، والدليل على أنه يسقط أنه هلك ما تعلق به الفرض قبل التمكن من الأداء فسقط الفرض ، كما لو هلك النصاب قبل أن يتمكن من إخراج الزكاة ، وإن مات بعد التمكن من الأداء لم يسقط الفرض ويجب قضاؤه من تركته ، لما روى بريدة قال : { أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت : يا رسول الله إن أمي ماتت ولم تحج قال : حجي عن أمك } ; ولأنه حق تدخله النيابة لزمه في حال الحياة ، فلم يسقط بالموت ، كدين الآدمي ، ويجب قضاؤه عنه من الميقات ; لأن الحج يجب من الميقات ، ويجب من رأس المال ; لأنه دين واجب ، فكان من رأس المال كدين الآدمي وإن اجتمع الحج ودين الآدمي والتركة لا تتسع لهما ففيه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها في آخر الزكاة )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : حديث بريدة رواه مسلم ، وفي الفصل مسائل : ( إحداها ) إذا وجب عليه الحج ، فلم يحج حتى مات - فإن مات قبل تمكنه من الأداء ، بأن مات قبل حج الناس من سنة الوجوب - تبينا عدم الوجوب لتبين علامة عدم الإمكان ، هكذا نص عليه الشافعي ، وقطع به الأصحاب ، وكان أبو يحيى البلخي من أصحابنا يقول : يجب قضاؤه من تركته ، ثم رجع عن ذلك حين أخرج إليه أبو إسحاق المروزي نص الشافعي كما ذكره المصنف ودليله في الكتاب . وإن مات بعد التمكن من أداء الحج بأن مات بعد حج الناس استقر الوجوب عليه ، ووجب الإحجاج عنه من تركته . [ ص: 93 ] قال البغوي وغيره : ورجوع الناس ليس معتبرا إنما المعتبر إمكان فراغ أفعال الحج حتى ولو مات بعد انتصاف ليلة النحر ومضى إمكان السير إلى منى والرمي بها وإلى مكة والطواف بها استقر الفرض عليه ، وإن مات أو جن قبل ذلك لم يستقر عليه ، وإن هلك ماله بعد رجوع الناس أو بعد مضي إمكان الرجوع استقر عليه الحج ، وإن هلك ماله بعد حجهم وقبل الرجوع أو إمكانه فوجهان ( أصحهما ) : أنه لا يستقر ; لأنه يشترط بقاؤه في الذهاب والرجوع ، وقد تبينا أن ماله لا يبقى إلى الرجوع . هذا حيث نشترط أن يملك نفقة الرجوع فإن لم نشترطها استقر بلا خلاف ولو أحصروا وأمكنه الخروج معهم ، فتحللوا ، لم يستقر عليه الحج ، لأنا تبينا عجزه وعدم إمكان الحج هذه السنة ، فلو سلكوا طريقا آخر وحجوا استقر عليه الحج ، وكذا لو حجوا في السنة التي بعدها إذا عاش وبقي ماله .

                                      ( الثانية ) : قال أصحابنا : حيث وجب عليه الحج وأمكنه الأداء ، فمات بعد استقراره يجب قضاؤه من تركته كما سبق ، ويكون قضاؤه من الميقات ، ويكون من رأس المال لما ذكره المصنف ، هذا إذا لم يوص به .

                                      فإن أوصى بأن يحج عنه من الثلث أو أطلق الوصية به من غير تقييد بالثلث ولا برأس المال ، فهل يحج عنه من الثلث ؟ أم من رأس المال ؟ فيه خلاف مشهور في كتاب الوصية ، فإن كان هناك دين آدمي وضاقت التركة عنهما ، ففيه الأقوال الثلاثة السابقة في كتاب الزكاة ( أصحها ) : يقدم الحج ( والثاني ) : دين الآدمي ( والثالث ) : يقسم بينهما . وقد ذكر إمام الحرمين والبغوي والمتولي وآخرون من الأصحاب قولا غريبا للشافعي ، أنه لا يحج عن الميت الحجة الواجبة إلا إذا أوصى بها ، فإذا أوصى حج عنه من الثلث ، وهذا قول غريب ضعيف جدا . وسنوضح المسألة في كتاب الوصية إن شاء الله تعالى ، وهذا كله إذا كان للميت تركة ، فلو استقر عليه الحج ومات ولم يحج ولا تركة له بقي [ ص: 94 ] الحج في ذمته ولا يلزم الوارث الحج عنه لكن يستحب له ، فإن حج عنه الوارث بنفسه أو استأجر من يحج عنه سقط الفرض ، عن الميت ، سواء كان أوصى به أم لا ; لأنه خرج عن أن يكون من أهل الإذن ، فلم يشترط إذنه بخلاف المعضوب ، فإنه يشترط إذنه كما سبق لإمكان أدائه ، ولو حج عن الميت أجنبي والحالة هذه جاز ، وإن لم يأذن له الوارث ، كما يقضي دينه بغير إذن الوارث ويبرأ الميت به .



                                      ( الثالثة ) : إذا وجب عليه الحج وتمكن من أدائه واستقر وجوبه ، فمات بعد ذلك ولم يحج ، فقد سبق أنه يجب قضاؤه ، وهل نقول مات عاصيا ؟ فيه أوجه مشهورة في كتب الخراسانيين ( أصحها ) : وبه قطع جماهير العراقيين ، ونقل القاضي أبو الطيب وآخرون الاتفاق عليه أنه يموت عاصيا ، واتفق الذين ذكروا في المسألة خلافا على أن هذا هو الأصح ، قالوا : وإنما جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة ( والثاني ) : لا يعصي لأنا حكمنا بجواز التأخير ( والثالث ) يعصي الشيخ دون الشاب ، لأن الشيخ يعد مقصرا لقصر حياته في العادة ، قال أصحابنا : والخلاف جار فيما لو كان صحيح البدن ، فلم يحج حتى صار زمنا ( والأصح ) العصيان أيضا ; لأنه فوت الحج بنفسه كما لو مات ، فإذا زمن وقلنا بالعصيان فهل يجب عليه الاستنابة على الفور بخروجه بالتقصير عن استحقاق الترفيه ؟ ولأنه قد صار في معنى الميت ؟ أم له تأخير الاستنابة ؟ كما لو بلغ معضوبا ، فإن له تأخير الاستنابة قطعا ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) : يلزمه على الفور .

                                      وعلى هذا لو امتنع وأخر الاستنابة ، هل يجبره القاضي عليها ويستأجر عنه ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) نعم ، كزكاة الممتنع ( وأصحهما ) : لا ، وقد سبق الوجهان ، ونظائرهما قريبا ، فيما إذا بذل للمعضوب ولده الطاعة فلم يقبل ، هل يقبل الحاكم عنه ؟ ( الأصح ) لا يقبل ، قال أصحابنا : وإذا قلنا : يموت عاصيا فمن أي وقت يحكم بعصيانه ؟ فيه أوجه ( أصحها ) : من السنة الأخيرة من سني الإمكان ، لأن التأخير إليها جائز ، قال القاضي أبو الطيب وغيره : وهذا قول أبي إسحاق المروزي ( والثاني ) : من السنة الأولى [ ص: 95 ] لاستقرار الفرض فيها ( والثالث ) : يموت عاصيا ، ولا يضاف العصيان إلى سنة بعينها . قال أصحابنا : وتظهر فائدة الخلاف في أحكام الدنيا في صور ( منها ) أنه لو شهد بشهادة ولم يحكم بها حتى مات ، لم يحكم لبيان فسقه ، ولو قضي بشهادته بين السنة الأولى والأخيرة من سني الإمكان - فإن قلنا عصيانه من الأخيرة - لم ينقض ذلك الحكم ; لأن فسقه لم يقارن الحكم ، بل طرأ بعده فلا يؤثر ، وإن قلنا : عصيانه من الأولى ففي نقضه القولان ، فيما إذا بان أن فسق الشهود كان مقارنا للحكم ، والله أعلم .

                                      هذا حكم الحج ، ولو أخر الصلاة عن أول الوقت الموسع ، فمات في أثنائه فقد سبق أنه هل يموت عاصيا ؟ فيه وجهان ( الأصح ) : لا يموت عاصيا ( والأصح ) : في الحج العصيان ، قال أصحابنا : والفرق أن آخر وقت الصلاة معلوم وقريب ، فلا يعد مفرطا في التأخير إليه ، مع غلبة الظن بالسلامة بخلاف الحج ، وقد سبق في كتاب مواقيت الصلاة أن تأخير الواجب الموسع إنما يجوز لمن غلب على ظنه السلامة إلى أن يفعل ، فأما من لم يغلب على ظنه ذلك ، فلا يحل له التأخير بلا خلاف والله أعلم .



                                      ( فرع ) : في مذاهب العلماء في الحج عن الميت قد ذكرنا أن مذهبنا أن من تمكن من الحج ، فمات يجب الإحجاج من تركته ، سواء أوصى به أم لا ، وبه قال ابن عباس وأبو هريرة وقال أبو حنيفة ومالك : لا يحج عنه إلا إذا أوصى به ويكون تطوعا . دليلنا حديث بريدة المذكور في الكتاب




                                      الخدمات العلمية