الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1449 [ ص: 178 ] حديث تاسع لابن شهاب عن عروة .

مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت : كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك ، قالت : فلما كان الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص ، وقال : ابن أخي قد كان عهد إلي فيه ، فقال عبد بن زمعة أخي ، وابن وليدة أبي ، ولد على فراشه ( فتساوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد : يا رسول الله : ابن أخي قد كان عهد إلي فيه ، وقال عبد بن زمعة أخي ، وابن وليدة أبي ، ولد على فراشه ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هو لك يا عبد بن زمعة ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر ثم قال لسودة ( بنت زمعة ) : احتجبي منه ، لما رأى من شبهه بعتبة فما رآها حتى لقي الله .

[ ص: 179 ]

التالي السابق


[ ص: 179 ] هكذا روى مالك هذا الحديث ، لا خلاف علمته عنه في إسناده ، ولا في لفظه إلا أن ابن وهب ، وأبا جعفر النفيلي ، والقعنبي في غير الموطأ رووه مختصرا عن مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الولد للفراش ، وللعاهر الحجر لم يذكروا قصة عبد بن زمعة ، وعتبة . رواه هكذا عن ابن وهب ابن أخيه ، ومحمد بن عبد الحكم ، وبحر بن نصر ، ويقال : إنه ليس عند يونس عن ابن وهب وعند ابن وهب ، والقعنبي أيضا في الموطأ الحديث بتمامه ، وهو أصل هذا الحديث عن مالك ، وقد خالفه ابن عيينة في بعض لفظه لم يقل فيه ، وللعاهر الحجر ، والقول قول مالك ، وقد أتقنه وجوده .

حدثنا خلف بن قاسم : حدثنا أحمد بن سليمان الرملي : حدثنا إبراهيم بن عبد الله البصري : حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد : حدثنا مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن عتبة بن أبي وقاص عهد [ ص: 180 ] إلى أخيه سعد ( بن أبي وقاص ) أن ابن وليدة زمعة هو مني فاقبضه إليك ، فلما فتحوا مكة أخذه سعد فقال عبد بن زمعة : هذا أخي ، وابن وليدة أبي قال : فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم به لعبد بن زمعة ، وقال : الولد للفراش وللعاهر الحجر ، وأمر سودة أن تحتجب منه فما رآها حتى ماتت .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثني قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا الحمدي قال : حدثنا سفيان ، وقال : حدثنا الزهري قال : حدثنا عروة بن الزبير أنه سمع عائشة تقول : اختصم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص ، وعبد بن زمعة في ابن أمة لزمعة فقال سعد : يا رسول الله إن أخي عتبة أوصاني فقال : إذا قدمت مكة ، فانظر ابن أمة زمعة فاقبضه ، فإنه ابني ، وقال عبد بن زمعة : يا رسول الله ، أخي وابن ( أمة ) أبي ، ولد على فراش أبي ، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شبها بينا بعتبة فقال : هو لك يا عبد بن زمعة ، الولد للفراش ، واحتجبي منه يا سودة قيل لسفيان : فإن مالكا يقول فيه : وللعاهر الحجر فقال سفيان : لكنا لم نحفظه من الزهري أنه قاله في هذا الحديث .

قال أبو عمر : قوله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر من أصح [ ص: 181 ] ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار ( الآحاد ) العدول ، وهذا اللفظ عند ابن عيينة من حديث ابن شهاب عن سعيد ، وأبي سلمة عن أبي هريرة .

حدثنا أحمد بن سعيد بن بشر قال : حدثنا وهب بن مسرة قال : حدثنا أحمد بن إبراهيم الفرضي قال : حدثنا أبو عثمان عمرو بن محمد بن بكير الناقد قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة ، وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الولد للفراش وللعاهر الحجر وهذا الحديث أيضا عند معمر عن الزهري عن أبي سلمة وسعيد ( بن المسيب ) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ذكره ( عن معمر ) عبد الرزاق ، وغيره .

وروى شعبة عن محمد بن زياد قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر وحدثنا خلف بن قاسم : حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين العسكري : حدثنا بحر بن نصر ، حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني مالك بن أنس ، ويونس بن يزيد بن سعد أن ابن شهاب [ ص: 182 ] أخبرهم عن عروة بن الزبير عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الولد للفراش وللعاهر الحجر حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن عبد السلام قال : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : لما فتحت مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قام رجل فقال : إن فلانا ابني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا دعوة في الإسلام ، ذهب أمر الجاهلية : الولد للفراش وللعاهر الأثلب قالوا : وما الأثلب ؟ قال : الحجر .

قال أبو عمر : في هذا الحديث وجوه من الفقه ، وأصول جسام : منها الحكم بالظاهر ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بالولد للفراش على ظاهر حكمه وسننه ، ولم يلتفت إلى الشبه ، وكذلك حكم في اللعان بظاهر الحكم ، ولم يلتفت إلى ما جاءت به بعد قوله إن جاءت به كذا فهو للذي رميت به فجاءت به على النعت المكروه ، ومن ذلك قوله عليه السلام : فأقضي له على نحو ما أسمع منه .

وفي هذا الحديث دليل على ما كان عليه أهل الجاهلية من استلحاق أولاد الزنا ، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يليط أولاد الجاهلية بمن [ ص: 183 ] ادعاهم في الإسلام ( ذكره مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام .

قال أبو عمر : ( هذا ) إذا لم يكن هناك فراش لأنهم كانوا في جاهليتهم يسافحون ويناكحون ، وأكثر نكاحاتهم على حكم الإسلام غير جائزة ، وقد أمضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاء الإسلام أبطل به رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم الزنا ( لتحريم الله إياه ) وقال : للعاهر الحجر ، فنفى أن يلحق في الإسلام ولد الزنا ، وأجمعت الأمة على ذلك نقلا عن نبيها صلى الله عليه وسلم وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ولد يولد على فراش لرجل لاحقا به على كل حال إلى أن ينفيه بلعان ، على حكم اللعان ، وقد ذكرناه في موضعه من كتابنا هذا ، وأجمعت الجماعة من العلماء أن الحرة فراش بالعقد عليها مع إمكان الوطء ( وإمكان ) الحمل فإذا كان عقد النكاح يمكن معه الوطء والحمل فالولد لصاحب الفراش لا ينتفي عنه أبدا بدعوى ( غيره ) ، ولا بوجه من الوجوه إلا باللعان .

واختلف الفقهاء في المرأة يطلقها زوجها في حين العقد عليها بحضرة الحاكم ، أو الشهود فتأتي بولد لستة أشهر فصاعدا من ذلك الوقت عقيب العقد ; فقال مالك والشافعي : لا يلحق به لأنها ليست [ ص: 184 ] بفراش له إذ لم يمكنه الوطء في العصمة ، وهو كالصغير ( أو الصغيرة اللذين لا يمكن منهما الولد ) وقال أبو حنيفة : هي فراش له ويلحق به ولدها .

واختلف الفقهاء في الأمة فقال مالك : إذا أقر بوطئها صارت فراشا ، فإن لم يدع استبراء لحق به ولدها ، وإن ادعى استبراء حلف ، وبرئ من ولدها ( يمينا واحدا ) واحتج بعمر بن الخطاب في قوله : لا تأتي وليدة يعترف سيدها أن قد ألم بها إلا ألحقت به ولدها فأرسلوهن بعد ، أو أمسكوهن ، وقال العراقيون : لا تكون الأمة فراشا بالوطء حتى يدعي سيدها ولدها ، وأما إن نفاه فلا يلحق به ( سواء أقر بوطئها ، أم لم يقر ) وسواء استبرأ ، أو لم يستبرئ .

وأجمع العلماء على أن لا لعان بين الأمة ، وسيدها ، وأجمع ( جمهور ) الفقهاء أيضا ( على ) أن لا يستلحق أحد غير الأب ; لأن أحدا لا يؤخذ بإقرار غيره عليه ، وإنما يؤخذ بإقراره على نفسه ، ولا يقر أحد على أحد ، ولو قبل استلحاق غير الأب كان فيه إثبات حقوق على [ ص: 185 ] الأب بغير إقراره ( ولا بينة تشهد عليه ) وقد أباه الله ورسوله قال الله عز وجل : ولا تزر وازرة وزر أخرى ولا تكسب كل نفس إلا عليها وقال صلى الله عليه وسلم لأبي رمثة في ابنه : إنك لا تجني عليه ، ولا يجني عليك ، وفي هذا كله ما يدلك ( على ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما حكم ( بالولد ) ( لزمعة ) لأن فراشه قد كان معروفا عنده ، والله أعلم .

لا أنه قضى به لعبد بن زمعة بدعواه على أبيه ( هذا أولى ما حمل عليه هذا الحديث ، والله أعلم ; لأن فيه قول عبد بن زمعة أخي ، وابن وليدة أبي ولد على فراشه فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ولد على فراشه فدل على أنه علم بوطء زمعة لوليدته فلذلك لم ينكر الفراش ، وكانت سودة بنت زمعة زوجته صلى الله عليه وسلم ومثل هذا لا يخفى من أفعال الصهر على صهره ، فلما لم ينكر قول عبد بن زمعة : " ولد على فراشه " دل على أنه قد كان علم بأنها كانت فراشا له بمسه إياها فقضى بما علم من ذلك ، ولولا ذلك لم يلحق الولد بزمعة بدعوى أخيه ; لأن سنته المجتمع عليها أنه لا يؤخذ أحد بإقرار غيره عليه ) إلا أن هذا في التأويل ما يوجب قضاء القاضي بعلمه ، وهو مما يأباه مالك ( وأكثر ) أصحابه .

[ ص: 186 ] وأما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث احتجبي منه يا سودة ، فقد أشكل معناه قديما على العلماء ، فذهب أكثر القائلين بأن الحرام لا يحرم الحلال ، وأن الزنا لا تأثير له في التحريم ، إلا أن قوله ذلك كان منه على وجه الاختيار ، والتنزه ، فإن للرجل أن يمنع امرأته من رؤية أخيها ، هذا قول ( أصحاب ) الشافعي ، وقالت طائفة : كان ذلك منه لقطع الذريعة بعد حكمه بالظاهر فكأنه حكم بحكمين ; حكم ظاهر ، وهو الولد للفراش ، وحكم باطن ، وهو الاحتجاب من أجل الشبهة ، كأنه قال : ليس بأخ لك يا سودة إلا في حكم الله بالولد للفراش ( فاحتجبي منه لما رأى من شبهه لعتبة ) قال ذلك بعض أصحاب مالك ، وضارع في ذلك قول العراقيين .

وأما الكوفيون فذهبوا إلى أن الزنا يحرم ، وأن له في هذه القصة حكما باطنا أوجب الحجاب ، والحكم الظاهر لحاق ابن وليدة زمعة بالفراش ، وقد وافقهم ابن القاسم في ( أن ) الزنا يحرم من نكاح الأم ، والابنة ما يحرم النكاح خلاف الموطأ ، وقد قال المزني في معنى هذا الحديث غير ما تقدم .

حدثني أحمد بن عبد الله بن محمد قال : حدثنا أبي قال : حدثنا محمد بن قاسم قال : حدثني أبي قال : سئل المزني عن حديث سعد بن أبي وقاص ، وعبد بن زمعة حين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن وليدة زمعة فقال : اختلف الناس في [ ص: 187 ] تأويل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال قائلون ، وهم أصحاب الشافعي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجبي منه يا سودة ، أنه منعها منه لأنه يجوز للرجل أن يمنع امرأته من أخيها ، وذهبوا إلى أنه أخوها على كل حال ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحقه بفراش زمعة ، وما حكم به فهو الحق ( الذي ) لا شك فيه .

قال : وقال آخرون ، وهم الكوفيون : إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للزنا حكم التحريم بقوله : احتجبي منه يا سودة فمنعها من أخيها في الحكم لأنه ليس بأخيها في غير الحكم ; لأنه من زنى في الباطن إذ كان شبيها بعتبة ( في غير الحكم ) فجعلوه كأنه أجنبي ، ولا يراها لحكم الزنا ، وجعلوه أخاها بالفراش .

وزعم الكوفيون أن ما حرمه الحلال فالحرام له أشد تحريما قال المزني : وأما أنا فيحتمل تأويل هذا الحديث عندي ، والله أعلم ، أن يكون صلى الله عليه وسلم أجاب عن المسألة ، فأعلمهم بالحكم أن هذا يكون إذا ادعى صاحب فراش ، وصاحب زنا لا أنه قبل على عتبة قول أخيه سعد ، وعلى زمعة ( قول ابنه ) أنه أولدها الولد ; لأن كل واحد منهما أخبر عن غيره ، وقد أجمع المسلمون أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره ، وفي ذلك عندي دليل على أنه حكم خرج على المسألة [ ص: 188 ] ليعرفهم كيف الحكم في مثلها إذا نزل ، ولذلك قال لسودة : احتجبي منه ; لأنه حكم على المسألة ، وقد حكى الله عز وجل في كتابه مثل ذلك في قصة داود ، والملائكة إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف الآية ، ولم يكونا خصمين ، ولا كان لواحد منهما تسع وتسعون نعجة ، ولكنهم كلموه على المسألة ليعرف بها ما أرادوا تعريفه فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم حكم في هذه القصة على المسألة ، وإن لم يكن أحد يؤنسني على هذا التأويل ( أو كان ) فإنه عندي صحيح ، والله أعلم .

قال المزني : قال الشافعي : إن رؤية ابن زمعة سودة مباح في الحكم ، ولكنه كرهه لشبهة ، وأمر بالتنزه اختيارا ( قال المزني : لما لم تصح دعوى سعد لأخيه ، ولا دعوى عبد بن زمعة ، ولا أقرت سودة أنه ابن أبيها فيكون أخاها منعه من رؤيتها ، وأمرها بالاحتجاب منه ، ولو ثبت أنه أخوها ما أمرها أن تحتجب منه ; لأنه صلى الله عليه وسلم بعث بصلة الأرحام ، وقد قال لعائشة في عمها من الرضاعة : إنه عمك فليلج عليك ، ويستحيل أن يأمر زوجه أن [ ص: 189 ] لا تحتجب من عمها من الرضاعة ، ويأمر زوجة له أخرى تحتجب من أخيها لأبيها قال : ويحتمل أن تكون سودة جهلت ما علم أخوها عبد بن زمعة فسكتت .

قال المزني : فلما لم يصح أنه أخ لعدم البينة ، أو الإقرار ممن يلزمه إقراره وزاده بعدا في القلوب شبهه بعتبة أمرها بالاحتجاب منه ، وكان جوابه صلى الله عليه وسلم على السؤال ، لا على تحقيق زنا عتبة بقول أخيه ، ولا بالولد أنه لزمعة بقول ابنه ، بل قال : الولد للفراش على قولك يا عبد بن زمعة ، لا على ما قال سعد ، ثم أخبر بالذي يكون إذا ثبت مثل هذا .

قال أبو عمر : لم يصنع المزني شيئا ; لأن المسلمين مجمعون أن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد بن زمعة ، وسعد بن أبي وقاص حكم صحيح ، نافذ في تلك القصة بعينها ، وفي كل ما يكون مثلها ، وليس قصة داود صلى الله عليه وسلم مع الملكين كذلك ، لأنهما إنما أرادا تعريفه لا الحكم عليه ، وكان أمرا قد نفذ ، فعرفاه بما كان عليه في ذلك ، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كذلك ; لأنه حكم استأنفه ، وقضى به ليتمثل في ذلك وفي غيره .

وقال محمد بن جرير الطبري : ( معنى ) قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : هو لك يا عبد بن زمعة ، أي هو لك عبد ملكا ; لأنه ابن وليدة أبيك ، وكل أمة تلد من غير سيدها ، فولدها عبد ، يريد أنه لما لم ينقل في الحديث اعتراف سيدها بوطئها ، ولا شهد بذلك عليه ، [ ص: 190 ] وكانت الأصول تدفع قبول قول ابنه عليه ، لم يبق إلا القضاء بأنه عبد تبع لأمه ، وأمر سودة بالاحتجاب منه لأنها لم تملك منه إلا شقصا .

وهذا أيضا من الطبري تحكم خلاف ظاهر الحديث ، ومن قال له إنها ولدت من غير سيدها ، وهو يرى في الحديث قول عبد بن زمعة : أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ، فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ، وقضى بالولد للفراش ، وقد قدمت لك من الإجماع على أن الولد لاحق بالفراش ، وأن ذلك من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم مجمع عليه ، ومن أن ولد الزنا في الإسلام لا يلحق بإجماع ما يقطع العذر ، وتسكن إليه النفس ; لأنه أصل وإجماع ونص ، وليس التأويل كالنص .

وقال أبو جعفر الطحاوي ليس قول من قال : إن دعوى سعد في هذا الحديث كالدعوى بشيء ; لأن سعدا إنما ادعى ما كان معروفا في الجاهلية من لحوق ولد الزنا بمن ادعاه ، وقد كان عمر يقضي بذلك في الإسلام فادعى سعد وصية أخيه بما كان يحكم في الجاهلية به فكانت دعواه لأخيه كدعوى أخيه لنفسه ، غير أن عبد بن زمعة قابله بدعوى توجب عتقا للمدعي ; لأن مدعيه كان يملك بعضه حين ادعى فيه ما ادعى ويعتق عليه ما كان يملك فيه فكان ذلك هو الذي أبطل دعوى سعد .

ولما كان لعبد بن زمعة شريك فيما ادعاه ، وهو أخته سودة ، ولم يعلم منها في ذلك تصديق له ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد بن زمعة ما أقر به في نفسه ، ولم يجعل ذلك حجة على أخته إذ لم تصدقه ، ولم يجعله أخاها وأمرها بالحجاب منه ، قال : وأما قوله صلى الله عليه وسلم هو لك يا عبد بن زمعة فمعناه هو لك يدك عليه لا أنك تملكه ، ولكن تمنع بيدك عليه كل من سواك منه كما [ ص: 191 ] قال في اللقطة : ( هي لك فيدك عليها تدفع غيرك عنها حتى يجيء صاحبها ليس على أنها ملك له قال ، ولا يجوز أن يجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنا لزمعة ، ثم يأمر أخته تحتجب منه هذا محال لا يجوز أن يضاف إلى النبي عليه السلام )

واختلف الفقهاء في معنى هذا الحديث في نكاح الرجل ابنته من زنا ، أو أخته بنت أبيه من زنا فحرم ذلك قوم ، منهم ابن القاسم ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، وأجاز ذلك ( قوم ) آخرون منهم عبد الملك بن الماجشون ، وهو قول الشافعي على كراهة ( قال : ) وأحب ( إلي ) التنزه عنه لقوله احتجبي منه ( يا سودة ) وهو لا يفسخه إذا نزل ، وقد روي عن مالك مثل ذلك ، وحجته : الولد للفراش وللعاهر الحجر فنفى أن يكون الولد لغير فراش ، وأبعد أن يكون [ ص: 192 ] للزاني شيء ، وكذلك اختلفوا في الرجل يزني بالمرأة ، فترضع بلبنه صبية هل له أن يتزوجها ؟ فمذهب جماعة ممن قال بتحريم لبن الفحل من ( العراقيين ) والكوفيين ، وغيرهم أنه لا يجوز له نكاحها .

وحدثنا محمد بن عبد الملك قال : حدثنا ( أبو سعيد ) ابن الأعرابي قال : حدثنا سعدان بن نصر قال : حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال : أعطاني جابر بن زيد صحيفة فيها مسائل أسأل عنها عكرمة ( فكأني تبطأت فانتزعها من يدي ، وقال : هذا عكرمة مولى ابن عباس ، هذا أعلم الناس ، قال : ) وكان فيها رجل فجر بامرأة فرآها ترضع جارية ، أيحل له أن يتزوجها ؟ قال : لا ، وقاله جابر بن زيد .

قال أبو عمر :

أجاز نكاحها طائفتان من الحجازيين ، إحداهما تقول : إن لبن الفحل لا يحرم شيئا ، والأخرى تقول : إن الزنا لا يؤثر تحريما ، ولا حكم له ، وإنما الحكم للوطء الحلال في الفراش الصحيح ، وسنذكر [ ص: 193 ] اختلاف الفقهاء في التحريم بلبن الفحل في هذا الكتاب إن شاء الله .

قال أبو عمر :

وقد ظن أن عمر بن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم ، كان هناك فراش أم لا ، وذلك جهل وغباوة وغفلة مفرطة ، وإنما الذي كان عمر يقضي به أن يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم إذا لم يكن هناك فراش ، وفيما ذكرنا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ما يكفي ويغني ، ونحن نزيد ذلك بيانا بالنصوص عن عمر رحمه الله ، وإن كان مستحيلا أن يظن به ( أحد ) أنه خالف بحكمه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في : " الولد للفراش ، وللعاهر الحجر " إلا جاهل لا سيما مع استفاضة هذا الخبر عند الصحابة ومن بعدهم .

حدثني أحمد بن عبد الله بن محمد قال : حدثنا الميمون بن حمزة الحسيني قال : حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي قال : حدثنا أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني قال : حدثنا الشافعي عن سفيان بن عيينة [ ص: 194 ] عن عبد الله بن أبي يزيد عن أبيه قال : أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شيخ من بني زهرة من أهل دارنا فذهبت مع الشيخ إلى عمر ، وهو في الحجر فسأله عن ولاد من ولاد الجاهلية قال : وكانت المرأة في الجاهلية إذا طلقها زوجها ، أو مات عنها نكحت بغير عدة فقال الرجل : أما النطفة فمن فلان ، وأما الولد فعلى فراش فلان ، فقال عمر : صدقت ، ولكن قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالولد للفراش ( فلما لم يلتفت إلى قول القائف مع الفراش كان أحرى أن لا يلتفت معه إلى الدعوى .

وحدثنا أحمد بن عبد الله قال : حدثنا الميمون بن حمزة قال : حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال : سمعت أبا الرداد عبد الله بن عبد السلام يقول : سمعت عبد الملك بن هشام النحوي يقول : هو زمعة بالفتح ) وحدثنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا محمد بن عمر بن علي قال : حدثنا علي بن حرب قال : حدثنا [ ص: 195 ] سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار ( أنه ) سمع عبيد بن عمير يقول : نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قضى بالولد للفراش من أجل نوح عليه السلام ، وروى شعبة عن سعد بن إبراهيم عن سعيد بن المسيب قال : أول قضاء علمته من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رد دعوة زياد ( يعني ، والله أعلم ، قوله صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش ، وللعاهر الحجر ) وفي قوله صلى الله عليه وسلم وللعاهر الحجر ، إيجاب الرجم على الزاني ; لأن ( العاهر الزاني ) ( والعهر الزنا ) وهذا معروف عند جماعة أهل العلم ، فأهل الفقه لا يختلفون في ذلك ، إلا أن العاهر في هذا الحديث المقصود إليه بالحجر هو المحصن دون البكر ، وهذا أيضا إجماع من المسلمين أن البكر لا رجم عليه ، وقد ذكرنا أحكام الرجم ، والإحصان ، وما في ذلك للعلماء من المنازع في باب ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله ، والحمد لله .

وقد قيل : إن قول صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر [ ص: 196 ] الحجر أي أن الزاني لا شيء له في الولد ، ادعاه أو لم يدعه ، وأنه لصاحب الحق دونه ، ولا ينتفي عنه أبدا إلا بلعان ( في الموضع الذي يجب فيه اللعان ) ( وهذا إجماع أيضا من علماء المسلمين ، أن الزاني لا يلحقه ولد من زنا ، ادعاه أو نفاه ) قالوا : فقوله : وللعاهر الحجر ، كقولهم بفيك الحجر ، أي لا شيء لك ، قالوا : ولم يقصد بقوله : وللعاهر الحجر : الرجم ، إنما قصد به إلى نفي الولد عنه ، واللفظ محتمل للتأويلين جميعا ، وبالله التوفيق .

ذكر إسماعيل بن إسحاق عن ابن أبي أويس عن مالك في الرجل يطأ أمته ، وقد زوجها عبده فتحمل منه فقال مالك : يعاقب ، ولا يلحق به الولد ، وإنما الولد للفراش ، وقال مرة أخرى : إن كان العبد غاب غيبة بعيدة ، ثم وطئها السيد فالولد له ( قال مالك في [ ص: 197 ] الرجل يدعي الولد من المرأة ، ويقول : قد نكحتها وهي امرأة ( أو كانت امرأتي ) وهذا ولدي منها ، ولم يعلم ذلك قال مالك : لا يجوز هذا في حياته ، ولا بعد مماته إذا لم يعلم ذلك ) وقال مالك في الرجل يدعي الولد المنبوذ بعد أن يوجد ، فيقول : هذا ابني قال مالك : لا يلحق به ، وهذا كله من أجل أن الفراش غير معروف ، والله أعلم .




الخدمات العلمية