الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى لم تعطف جملة قال يا قوم بالفاء التفريعية على جملة أرسلنا نوحا إلى قومه لأنها في معنى البيان لجملة أنذر قومك لدلالتها على أنه أنذر قومه بما أمره الله أن يقوله لهم ، وإنما أدمج فيه فعل قول نوح للدلالة على أنه أمر أن يقول فقال ، تنبيها على مبادرة نوح لإنذار قومه في حين بلوغ الوحي إليه من الله بأن ينذر قومه .

[ ص: 188 ] ولك أن تجعلها استئنافا بيانيا لجواب سؤال السامع أن يسأل ماذا فعل نوح حين أرسل الله إليه أن أنذر قومك ، وهما متقاربان .

وافتتاح دعوته قومه بالنداء لطلب إقبال أذهانهم ، ونداؤهم بعنوان : أنهم قومه ، تمهيد لقبول نصحه إذ لا يريد الرجل لقومه إلا ما يريد لنفسه . وتصدير دعوته بحرف التوكيد ؛ لأن المخاطبين يترددون في الخبر .

والنذير : المنذر غير جار على القياس ، وهو مثل بشير ، ومثل حكيم بمعنى محكم ، وأليم بمعنى مؤلم ، وسميع بمعنى مسمع ، في قول عمرو بن معد يكرب :


أمن ريحانة الداعي السميع

وقد تقدم في أول سورة البقرة عند قوله ولهم عذاب أليم . وحذف متعلق نذير لدلالة قوله أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون عليه . والتقدير : إني لكم نذير بعذاب أليم إن لم تعبدوا الله ولم تتقوه ولم تطيعوني .

والمبين : يجوز أن يكون من أبان المتعدي الذي مجرده بان ، أي : موضح أو من أبان القاصر ، الذي هو مرادف بان المجرد ، أي : نذير واضح لكم أني نذير ، لأني لا أجتني من دعوتكم فائدة من متاع الدنيا وإنما فائدة ذلك لكم ، وهذا مثل قوله في سورة الشعراء وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون .

وتقديم ( لكم ) على عامله وهو نذير للاهتمام بتقديم ما دلت عليه اللام من كون النذارة لفائدتهم لا لفائدته .

فجمع في صدر دعوته خمسة مؤكدات ، وهي : النداء ، وجعل المنادى لفظ يا ( قوم ) المضاف إلى ضميره ، وافتتاح كلامه بحرف التأكيد ، واجتلاب لام التعليل ، وتقديم مجرورها .

و ( أن ) في ( أن اعبدوا ) تفسيرية ؛ لأن وصف ( نذير ) فيه معنى القول دون حروفه ، وأمرهم بعبادة الله ؛ لأنهم أعرضوا عنها ونسوها بالتمحض لأصنامهم ، وكان قوم نوح مشركين كما دل عليه قوله تعالى في سورة يونس فأجمعوا أمركم وشركاءكم . وبذلك كان تمثيل حال المشركين من العرب بحال قوم نوح تمثيلا تاما .

[ ص: 189 ] واتقاء الله اتقاء غضبه ، فهذا من تعليق الحكم باسم الذات . والمراد : حال من أحوال الذات من باب حرمت عليكم الميتة أي : أكلها ، أي : بأن يعلموا أنه لا يرضى لعباده الكفر به . وطاعتهم لنوح هي امتثالهم لما دعاهم إليه من التوحيد وقد قال المفسرون : لم يكن في شريعة نوح إلا الدعوة إلى التوحيد فليس في شريعته أعمال تطلب الطاعة فيها لكن لم تخل شريعة إلهية من تحريم الفواحش مثل قتل الأنفس وسلب الأموال ، فقوله يغفر لكم من ذنوبكم ينصرف بادئ ذي بدء إلى ذنوب الإشراك اعتقادا وسجودا .

وجزم يغفر لكم من ذنوبكم في جواب الأوامر الثلاثة اعبدوا الله واتقوه وأطيعون ، أي : إن تفعلوا ذلك يغفر الله لكم من ذنوبكم . وهذا وعد بخير الآخرة .

وحرف ( من ) زائد للتوكيد ، وهذا من زيادة ( من ) في الإيجاب على رأي كثير من أيمة النحو مثل الأخفش وأبي علي الفارسي وابن جني من البصريين وهو قول الكسائي وجميع نحاة الكوفة . فيفيد أن الإيمان يجب ما قبله في شريعة نوح مثل شريعة الإسلام .

ويجوز أن تكون ( من ) للتبعيض ، عند من أثبت ذلك وهو اختيار التفتزاني ، أي : يغفر لكم بعض ذنوبكم ، أي : ذنوب الإشراك وما معه ، فيكون الإيمان في شرع نوح لا يقتضي مغفرة جميع الذنوب السابقة ، وليس يلزم تماثل الشرائع في جميع الأحكام الفرعية ، ومغفرة الذنوب من تفاريع الدين وليست من أصوله . وقال ابن عطية : معنى التبعيض : مغفرة الذنوب السابقة دون ما يذنبون من بعد . وهذا يتم ويحسن إذا قدرنا أن شريعة نوح تشتمل على أوامر ومنهيات عملية فيكون ذكر ( من ) التبعيضية اقتصادا في الكلام بالقدر المحقق .

وأما قوله ويؤخركم إلى أجل مسمى فهو وعد بخير دنيوي يستوي الناس في رغبته ، وهو طول البقاء فإنه من النعم العظيمة ؛ لأن في جبلة الإنسان حب البقاء في الحياة على ما في الحياة من عوارض ومكدرات . وهذا ناموس جعله الله تعالى في جبلة الإنسان لتجري أعمال الناس على ما يعين على حفظ النوع . قال المعري :


وكل يريد العيش والعيش حتفه     ويستعذب اللذات وهي سمام

والتأخير : ضد التعجيل ، وقد أطلق التأخير على التمديد والتوسيع من أجل الشيء .

[ ص: 190 ] وقد أشعر وعده إياهم بالتأخير أنه تأخير مجموعهم ، أي : مجموع قومه ؛ لأنه جعل جزاء لكل من عبد الله منهم واتقاه وأطاع الرسول ، فدل على أنه أنذرهم في خلال ذلك باستئصال القوم كلهم ، وأنهم كانوا على علم بذلك كما أشار إليه قوله أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم كما تقدم آنفا ، وكما يفسره قوله تعالى في سورة هود ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه أي : سخروا من الأمر الذي يصنع الفلك للوقاية منه . وهو أمر الطوفان ، فتعين أن التأخير المراد هنا هو عدم استئصالهم . والمعنى : ويؤخر القوم كلهم إلى أجل مسمى وهو آجال إشخاصهم وهي متفاوتة .

والأجل المسمى : هو الأجل المعين بتقدير الله عند خلقة كل أحد منهم ، فالتنوين في ( أجل ) للنوعية ، أي : الجنس ، وهو صادق على آجال متعددة بعدد أصحابها كما قال تعالى ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر

ومعنى مسمى أنه محدد معين وهو ما في قوله تعالى وأجل مسمى عنده في سورة الأنعام .

فالأجل المسمى : هو عمر كل واحد المعين له في ساعة خلقه المشار إليه في الحديث " أن الملك يؤمر بكتب أجل المخلوق عندما ينفخ فيه الروح " واستعيرت التسمية للتعيين لشبه عدم الاختلاط بين أصحاب الآجال .

والمعنى : ويؤخركم فلا يعجل بإهلاككم جميعا فيؤخر كل أحد إلى أجله المعين له على تفاوت آجالهم .

فمعنى هذه الآية نظير معنى آية سورة هود وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى وهي على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - .

التالي السابق


الخدمات العلمية