الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله - عز وجل -:

وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين

قال جمهور المفسرين: "الذين"؛ يراد بهم القوم الذين كان عرض طردهم؛ [ ص: 371 ] فنهى الله - عز وجل - عن طردهم؛ وشفع ذلك بأن أمر بأن يسلم النبي - صلى اللـه عليه وسلم - عليهم؛ ويؤنسهم.

وقال عكرمة ؛ وعبد الرحمن بن زيد: "الذين"؛ يراد بهم القوم من المؤمنين الذين صوبوا رأي أبي طالب في طرد الضعفة؛ فأمر الله تعالى نبيه - صلى اللـه عليه وسلم - أن يسلم عليهم؛ ويعلمهم أن الله تعالى يغفر لهم؛ مع توبتهم من ذلك السوء؛ وغيره.

وأسند الطبري عن ماهان أنه قال: نزلت الآية في قوم من المؤمنين استفتوا النبي - صلى اللـه عليه وسلم - في ذنوب سلفت منهم؛ فنزلت الآية بسببهم.

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهي - على هذا - تعم جميع المؤمنين؛ دون أن تشير إلى فرقة.

وقال الفضيل بن عياض : قال قوم للنبي - صلى اللـه عليه وسلم -: إنا قد أصبنا ذنوبا؛ فاستغفر لنا؛ فأعرض - صلى اللـه عليه وسلم - عنهم؛ فنزلت الآية.

وقوله: "بآياتنا"؛ يعم آيات القرآن؛ وأيضا علامات النبوة كلها؛ و "سلام عليكم"؛ ابتداء؛ والتقدير: "سلام ثابت - أو واجب - عليكم"؛ والمعنى: "أمنة لكم من عذاب الله تعالى في الدنيا؛ والآخرة"؛ وقيل: المعنى: "إن الله تعالى يسلم عليكم".

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا معنى لا يقتضيه لفظ الآية؛ حكاه المهدوي؛ ولفظه لفظ الخبر؛ وهو في معنى الدعاء؛ وهذا من المواضع التي جاز فيها الابتداء بالنكرة؛ إذ قد تخصصت؛ و"كتب"؛ بمعنى "أوجب"؛ والله تعالى لا يجب عليه شيء عقلا؛ إلا إذا أعلمنا أنه قد حتم بشيء ما؛ فذلك الشيء واجب؛ وفي "أين هذا الكتاب؟"؛ اختلاف؛ قيل: في اللوح المحفوظ؛ وقيل: في كتاب غيره؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - في صحيح البخاري : "إن الله - تبارك وتعالى - كتب كتابا - فهو عنده فوق العرش -: إن رحمتي سبقت غضبي".

[ ص: 372 ] وقرأ عاصم ؛ وابن عامر : "أنه"؛ بفتح الهمزة في الأولى؛ والثانية؛ فـ "أنه"؛ الأولى بدل من "الرحمة"؛ و"أنه"؛ الثانية خبر ابتداء مضمر؛ تقديره: "فأمره أنه غفور رحيم"؛ هذا مذهب سيبويه ؛ وقال أبو حاتم : "فأنه"؛ ابتداء؛ ولا يجوز هذا عند سيبويه ؛ وقال النحاس : هي عطف على الأولى؛ وتكرير لها؛ لطول الكلام؛ قال أبو علي : ذلك لا يجوز؛ لأن "من"؛ لا يخلو أن تكون موصولة؛ بمعنى: "الذي"؛ فتحتاج إلى خبر؛ أو تكون شرطية؛ فتحتاج إلى جواب؛ وإذا جعلنا "فأنه"؛ تكريرا للأولى؛ عطفا عليها؛ بقي المبتدأ بلا خبر؛ أو الشرط بلا جواب.

وقرأ ابن كثير ؛ وأبو عمرو ؛ وحمزة ؛ والكسائي : "إنه"؛ بكسر الهمزة في الأولى؛ والثانية؛ وهذا على جهة التفسير لـ "الرحمة"؛ في الأولى؛ والقطع فيها؛ وفي الثانية: إما في موضع الخبر؛ أو موضع جواب الشرط؛ وحكم ما بعد الفاء إنما هو الابتداء؛ وقرأ نافع بفتح الأولى؛ وكسر الثانية؛ وهذا على أن أبدل من "الرحمة"؛ واستأنف بعد الفاء؛ وقرأت فرقة بكسر الأولى؛ وفتح الثانية؛ حكاه الزهراوي عن الأعرج ؛ وأظنه وهما؛ لأن سيبويه حكاه عن الأعرج مثل قراءة نافع ؛ وقال أبو عمرو الداني : قراءة الأعرج ضد قراءة نافع .

والجهالة - في هذا الموضع - تعم التي تضاد العلم؛ والتي تشبه بها؛ وذلك أن المتعمد لفعل الشيء الذي قد نهي عنه تشمل معصيته تلك جهالة؛ إذ قد فعل ما يفعله الذي لم يتقدم له علم؛ قال مجاهد : "من الجهالة ألا يعلم حلالا من حرام؛ ومن جهالته أن يركب الأمر"؛ ومن هذا الذي لا يضاد العلم قول النبي - صلى اللـه عليه وسلم - في استعاذته: "أن أجهل؛ أو يجهل علي"؛ ومنه قول الشاعر:


ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا



[ ص: 373 ] والجهالة المشبهة ليست بعذر في الشرع جملة؛ والجهالة الحقيقية يعذر بها في بعض ما يخف من الذنوب؛ ولا يعذر بها في كبيرة.

و"التوبة": الرجوع؛ وصحتها مشروطة باستدامة الإصلاح بعدها في الشيء الذي تيب منه.

والإشارة بقوله: "وكذلك"؛ إلى ما تقدم من النهي عن طرد المؤمنين؛ وبيان فساد منزع العارضين لذلك؛ وتفصيل الآيات: تبيينها؛ وشرحها؛ وإظهارها؛ واللام في قوله: "ولتستبين"؛ متعلقة بفعل مضمر؛ تقديره: "ولتستبين سبيل المجرمين فصلناها".

وقرأ نافع : "وليستبين"؛ بالياء؛ أي النبي - صلى اللـه عليه وسلم -؛ "سبيل"؛ بالنصب؛ حكاه مكي في "المشكل"؛ له؛ وقرأ ابن كثير ؛ وأبو عمرو ؛ وابن عامر ؛ وحفص عن عاصم : "ولتستبين سبيل المجرمين"؛ برفع "السبيل"؛ وتأنيثها؛ وقرأ عاصم في رواية أبي بكر - رضي اللـه عنه -؛ وحمزة ؛ والكسائي : "وليستبين سبيل"؛ برفع "السبيل"؛ وتذكيرها؛ وعرب الحجاز تؤنث "السبيل"؛ وتميم وأهل نجد يذكرونها؛ وخص سبيل المجرمين لأنهم الذين أثاروا ما تقدم من الأقوال؛ وهم أهم في هذا الموضع؛ لأنها آيات رد عليهم؛ وأيضا فتبيين سبيلهم يتضمن بيان سبيل المؤمنين؛ وتأول ابن زيد أن قوله: "المجرمين"؛ يعني به الآمرين بطرد الضعفة.

التالي السابق


الخدمات العلمية