الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الرابع : إيجاب وقبول متصل به بلفظ الإنكاح أو التزويج أو معناهما الخاص بكل لسان من شخصين مكلفين ليس فيهما امرأة سواء كان هو الزوج أو الولي أو وكيلهما

التالي السابق


(الرابع: إيجاب وقبول متصل به لفظ الإنكاح أو التزويج) لا يقوم غيرهما مقامهما خلافا لأبي حنيفة ومالك (أو معناهما الخاص) وهو ترجمتهما (بكل لسان) فارسي أو تركي أو غيرهما لأنهما لفظان لا يتعلق بهما المجاز ، فاكتفى بترجمتهما سواء كانا قادرين على العربية أم لا .

والثاني: لا ينعقد إذا أحسناهما بالعربية أو لا ينعقد، ثم إن المراد بالإيجاب هو الصادر من جهة الولي بأن يقول الولي أو وكيله للزوج: زوجتك وأنكحتك أو لوكيل الزوج زوجت موليتي فلانة لموكلك فلان بن فلان وأنكحتها له على صداق كذا ، وظاهر سياق المصنف كغيره من المصنفين في تقديم الإيجاب على القبول أنه شرط وليس كذلك ، فلو تقدم لفظ الزوج على لفظ الولي بأن قال الزوج أولا: تزوجت وأنكحت نكاح موليتك فلانة. فقال: المولى زوجتك أو أنكحتك جاز وصح العقد ، وإنما اعتبر في إيجاب النكاح وقبوله اللفظان المذكوران وما في معناهما دون غيرهما من ألفاظ العقود كالبيع والهبة والتمليك والإحلال والإباحة لأن النكاح له [ ص: 326 ] شائبة نزوع إلى العبادات لورود الندب فيه والأذكار في العبادات تتلقى من الشارع ولأن القرآن ما ورد إلا بهذين اللفظين دون غيرهما ، ولا يشترط اتفاق اللفظ من الطرفين ، فلو قال أحدهما: زوجتك ، وقال الآخر: قبلت نكاحها ، صح النكاح ، هذا مذهب الشافعي رضي الله عنه (من شخصين مكلفين ليس فيهما امرأة سواء كان هو الزوج أو الولي أو وكيلهما) ، فلا ينعقد بحضور الصبيان والمجانين ولا بحضور امرأتين ورجل وامرأة، وقد تقدم ذلك قريبا مع ذكر الخلاف ، وقال أصحابنا الحنفية: ينعقد بلفظ النكاح والتزويج وما وضع لتمليك العين في الحال ، واحتراز بقوله: في الحال عن الوصية لأنها تمليك العين بعد الموت لا في الحال ، وهذا إذا أطلق ، وأما إذا قال: أوصيت لك ببنتي للحال ينعقد لأنه تمليك للحال كما في النوادر ، ومن فروع هذا الأصل أنه ينعقد بلفظ البيع والهبة وبلفظ السلم ، قيل: ينعقد ، وقيل: لا ، وكذا في الصرف روايتان ، وفي القرض قولان: قياس قول الإمام ومحمد: الانعقاد ، وقياس قول أبي يوسف: عدمه إذ الملك فيه بالقبض يثبت عندهما ولا يثبت عنده ، وبالجعل ينعقد باعتباره فيه خلاف الكرخي وهو يقول: إن المستوى في النكاح منفعة حقيقة ، وقد سمى الله تعالى بدله أجرة بقوله تعالى: فآتوهن أجورهن فتثبت المشاكلة بينهما ولو جعلت المرأة أجرة ينبغي أن ينعقد إجماعا؛ لأنه يفيد ملك الرقبة ولا ينعقد بلفظ الإعارة خلافا للكرخي ولا بلفظ الإباحة والإحلال والتمتع والإجارة بالرأي والرضا والإبراء ونحوها لأنها لا تفيد ملك المتعة ، وفي نوادر الفقه كل لفظ موضوع لتمليك العين ينعقد به النكاح إن ذكر المهر، وإلا فالنية وما ليس بموضوع له لا ينعقد والله أعلم .



(فصل)

تقدم أنه لا تصح عبارة المرأة في النكاح فلا تزوج نفسها بإذن الولي ولا دون إذنه ولا تزوج غيرها ، وهو مذهب الشافعي وبه قال مالك وأحمد وحجتهم حديث أبي موسى: " لا نكاح إلا بولي ". رواه أصحاب السنن ، وحديث عائشة : " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ". ولا فرق في ذلك بين الشريفة والدنيئة خلافا لمالك ، ولا بين أن تزوج نفسها من كفء أو غير كفء ، فأما أبو حنيفة وأصحابه فليس الولي عندهم من أركان النكاح ولا من فرائضه ، وإنما هو لئلا يلحقها عارها ، فإذا تزوجت كفؤا جاز النكاح بكرا كانت أو ثيبا ، وحجتهم حديث ابن عباس: الأيم أحق بنفسها . . . إلخ. رواه الجماعة إلا البخاري ، ويقال للحنفية لم تركتم العمل بحديث: " لا نكاح إلا بولي". والجواب أن هذا الحديث رواه سفيان وشعبة عن أبي إسحاق منقطعا ، وكل واحد منهما حجة على إسرائيل ، فكيف يكون إذا اجتمعا جميعا؟ فإن قالوا إن أبا عوانة تابع إسرائيل في رفعه فيكون حجة ؟ فالجواب قد روي هكذا ، وروي عنه أيضا عن إسرائيل عن أبي إسحاق فقد رجع حديثه إلى حديث إسرائيل ، فانتفى بذلك أن يكون عند أبي عوانة في هذا عن أبي إسحاق شيء ، فإن قالوا: قد رواه أيضا قيس بن الربيع عن أبي إسحاق مرفوعا كما رواه إسرائيل . فالجواب: صدقتم ، لكن قيس دون إسرائيل ، فإذا انتفى أن يكون إسرائيل مضادا لسفيان وشعبة كان قيس أحرى أن لا يكون مضادا لهما ، فإن قالوا: فإن بعض أصحاب سفيان قد رواه عن سفيان مرفوعا كما رواه إسرائيل وقيس ، وهو بشر بن منصور ، فالجواب صدقتم ولكنكم ما ترضون من خصمكم بمثل هذا أن تحتجوا عليه بما رواه أصحاب سفيان أو أكثرهم عنه على معنى ، ويحتج هو عليكم بما رواه بشر بن منصور عن سفيان بما خالف ذلك المعنى ، وتعدون المحتج عليكم بهذا جاهلا بالحديث ، فكيف تسوغون أنفسكم على مخالفيكم ما لا تسوغونه عليكم ؟ إن هذا الجور بين ، فإن قالوا: فقد رواه الإمام أبو حنيفة عن أبي إسحاق مرفوعا كما رواه إسماعيل فما باله لم يعمل به ؟ فالجواب إنما منع الإمام الاحتجاج به التضاد بين الأخبار والتنافي ، فإن حديث ابن عباس: " الأيم أحق بنفسها. . إلخ" معارض لحديث: " لا نكاح إلا بولي " ومضاد له. والأيم كل امرأة لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا ، فالمرأة إذا كانت رشيدة جاز لها أن تلي عقد نكاحها لأنه عقد أكسبها مالا ، فجاز أن تتولاه بنفسها ، كالبيع والإجارات ، قالوا: وقد أضاف الله عز وجل النكاح إليها بقوله: حتى تنكح زوجا غيره [ ص: 327 ] وبقوله: أن ينكحن أزواجهن وبقوله: فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف فكل ذلك يدل على انعقاد بعبارتها، وأما الجواب عن حديث: أيما امرأة نكحت. . . إلخ. فقد رواه ابن جريج ، عن سليمان بن موسى ، عن الزهري ، وقد ذكر بنفسه أنه سأل عنه الزهري فلم يعرفه ، رواه يحيى بن معين ، عن أبي علية ، عن ابن جريج كذلك ، وهم يسقطون الحديث بأقل من هذا. ورواه الحجاج بن أرطاة ، عن الزهري ، ولا يثبتون له سماعا عن الزهري ، وحديثه عندهم مرسل وهم لا يحتجون بالمرسل ، ورواه ابن لهيعة عن جعفر بن ربيعة عن الزهري وهم ينكرون على خصمهم الاحتجاج عليهم بحديثه، فكيف يحتجون به عليه في مثل هذا ، ثم لو ثبت ما رووا ذلك عن الزهري ، فقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - ما يخالف روايتها ، وإذا تعارض الفعل والرواية قدم الفعل. وهو ما رواه مالك عن عبد الرحمن بن قاسم عن أبيه عن عائشة : أنها زوجت حفصة بنت عبد الرحمن بن المنذر بن الزبير ، وعبد الرحمن غائب بالشام ، فلما قدم عبد الرحمن قال: مثلي يصنع به ويفتات عليه ، فكلمت عائشة المنذر ، قال المنذر: فإن ذلك بيد عبد الرحمن ، فقال عبد الرحمن: ما كنت أرد أمرا قضيته ، فلما كانت عائشة قد رأت أن تزويجها بنت عبد الرحمن بغير أمره جائز ، ورأت ذلك العقد مستقيما حين أجازت فيه التمليك الذي لا يكون إلا عن صحة النكاح وثبوتها استحال أن تكون ترى ذلك، وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نكاح إلا بولي "، فثبت بذلك فساد ما روي عن الزهري في ذلك ، وهذا الذي تلخص من السياق من أمر المرأة في تزويج نفسها إليها لا إلى وليها معنى لو زوجت الحرة العاقلة البالغة نفسها جاز ، وكذا لو زوجت غيرها بالوكالة أو بالولاية ، وإن لم يعقد عليها ولي بكرا كانت أو ثيبا هو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، إلا أنه كان يقول : إن زوجت المرأة نفسها من غير كفؤ فلوليها فسخ ذلك عليها ، وكذلك إن تزوجت بدون مهر مثلها فلوليها أن يخاصم في ذلك حتى يلحق بمهر مثل نسائها ، وقد كان أبو يوسف إذ كان يقول: إن بضع المرأة إليها في عقد النكاح عليها لنفسها دون وليها يقول: إنه ليس للولي أن يعترض عليها في نقصان ما تزوجت عليه من مهر مثلها ثم رجع عن هذا كله إلى قول من قال: " لا نكاح إلا بولي "، وقوله الثاني هو قول محمد بن الحسن ، والله أعلم



(فصل)

قال شارح المحرر في ولاية الفاسق: ولأصحاب الشافعي طرق:

أحدها: جريان القولين أحدهما ، وهو قول أبي حنيفة ومالك: إن الفاسق له الولاية لأن الفسقة لم يمنعوا من التزويج في عصر الأولين، والثاني: المنع لأن الفاسق نقص يقدح في الشهادة فيمنع الولاية ، ولهذا قال أحمد في أصح الروايتين .

والطريق الثاني: القطع بالمنع وهو قضية إيراد أبي علي بن هريرة والطبري ، وابن القطان .

والثالث: القطع بأن له أن يلي، وهو اختيار القاضي أبي حامد وبه قال القفال .

والرابع : أن الأب والجد يليان مع الفسق ولا يلي غيرهما ، والفرق كمال شفقتهما وقوة ولايتهما .

والخامس: قال أبو إسحاق: الأب والجد لا يليان مع الفسق ويلي غيرهما، والفرق أنهما يجبران فربما وضعا تحت فاسق مثلهما وغيرهما يزوج بالإذن ، فإن لم ينظر لها نظرت هي لنفسها . قال الإمام: وقياس هذه الطريق أن يزوج الفاسق ابنته البكر برضاها وأن لا يجبرها .

والسادس: إن كان فسقه بشرب الخمر لم يلزم لاضطراب نظره وغلبة السكر عليه ، وإن كان بشيء آخر يلي .

وذكر الحناطي وجهين في أن من يعلن بفسقه لا يلي ، ومن يستتر به يلي ، ويخرج من هذا طريق .

وقال بعض المتأخرين: إن كان الفسق مما يؤدي إلى الخسة والدناءة وعدم الغيرة كالقيادة والخنوثة فيمنع ، وإلا فلا فهذه طريق ثانية ، ثم الظاهر أن الخلاف في ولاية المال كالخلاف في ولاية النكاح ، والصحيح مطلقا طالب . . . لولاية المال وإن قر توبة الولي في الحال لا تؤثر ، بل لا بد من الاستبراء بالفصول الأربعة كما في باب الشهادة. وقال البغوي: تؤثر في الحال ليصح منه عقد النكاح ، ونقل الشيخ ملك زاد القزويني عن القاضي أبي سعيد: إذا لم تثبت الولاية للفاسق لم يكن له أن ينكح لنفسه ، والصحيح خلافه لأن غايته إحراز نفسه ما لا يحتمل في غيره بدليل قبول إقراره على نفسه وعدم قبول شهادته على غيره ، ثم إن الحرف الدنيئة هل تقدح في الولاية ؟ إذا قلنا بالمذهب [ ص: 328 ] إن الفاسق ليس له ولاية وجهان ذكرهما العبادي ، والظاهر أنه لا يقدح ، والله أعلم .




الخدمات العلمية