الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2484 [ ص: 432 ] 33 - باب: من استعار من الناس الفرس 2627 - حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن قتادة قال: سمعت أنسا يقول: كان فزع بالمدينة، فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسا من أبي طلحة يقال له: المندوب، فركب، فلما رجع قال: " ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحرا". [2820، 2857، 2862، 2866، 2867، 2908،2968، 2969، 3040، 6033، 6212 - مسلم: 2307 - فتح: 5 \ 240]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث أنس: كان فزع بالمدينة، فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرسا من أبي طلحة يقال له: المندوب، فركب، فلما رجع قال: "ما رأينا من شيء، وإن وجدناه لبحرا".

                                                                                                                                                                                                                              الشرح: قال الخطابي: (إن) هنا بمعنى النفي، واللام بمعنى (إلا)، كأنه قال: ما وجدناه إلا بحرا، تقول: إن زيدا لعاقل. تريد: ما زيد إلا عاقل، وعلى هذا قراءة من قرأ: إن هذان لساحران [طه: 63] بتخفيف (إن)؛ المعنى: ما هذان إلا ساحران، وقد قرأه حفص عن عاصم.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: هذا هو مذهب الكوفيين، ومذهب البصريين أن (إن) مخففة من الثقيلة واللام زائدة، وقد نبه على ذلك ابن التين.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ما رأينا من شيء)؛ أي: عدوا، والمندوب علم على فرس، وأفراسه صلى الله عليه وسلم جمعها بعضهم في بيت:


                                                                                                                                                                                                                              والخيل سكب لحيف سبحة ظرب لزاز مرتجز ورد لها أسرار

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 433 ] كما جمعت أسيافه في بيت:


                                                                                                                                                                                                                              إن شئت أسماء أسياف النبي فقد جاءت بأسمائهن السبع أخبار
                                                                                                                                                                                                                              قل: مخدم ثم حتف ذو الفقار وقل عضب رسوب وقلعي وبتار

                                                                                                                                                                                                                              وذكر القاضي عياض أن في خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرس يقال له: البحر، اشتراه من تجر قدموا به من اليمن سبق عليه مرات، ثم قال بعد: فيحتمل أنه يصير إليه بعد أبي طلحة.

                                                                                                                                                                                                                              وهذا نقض للأول، لكن لو قال: يحتمل أنهما فرسان اتفقا في الاسم لكان أقرب.

                                                                                                                                                                                                                              وزعم نفطويه: أن البحر من أسماء الخيل، وهو الكثير الجري، الذي لا يفنى جريه كما لا يفنى ماء البحر مجازا. ونبه ابن بطال على أنه صلى الله عليه وسلم أول من تكلم بهذا.

                                                                                                                                                                                                                              وعن القزاز: هو الواسع الجري، ومنه سمي البحر بحرا لسعته،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 434 ] ومنه: فلان متبحر في العلم; إذا اتسع فيه.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الأصمعي: فرس بحر؛ إذا كان واسع الجري.

                                                                                                                                                                                                                              قال الداودي: هو على اتساع اللغة والاستكثار مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "أما أبو جهم؛ فلا يضع العصا عن عاتقه".

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك; فاختلف العلماء في عارية الحيوان، والعقار، وما لا يغاب عليه.

                                                                                                                                                                                                                              فروى ابن القاسم عن مالك: أن من استعار حيوانا أو غيره مما لا يغاب عليه فتلف عنده، فهو مصدق في تلفه، ولا يضمنه إلا بالتعدي، وهو قول الكوفيين، فإن كان مما يعاب عليه من ثوب أو غيره؛ فهو ضامن ولا يقبل قوله في هلاكه إلا أن يكون ظاهرا معروفا تقوم له بينة من غير تفريط، ولا يضمن. وقال عطاء: العارية مضمونة على كل حال كانت مما لا يعاب عليه أم لا، وسواء تعدى فيها أو لم يتعد، وبه قال الشافعي وأحمد.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: إلا إذا بلغت من الوجه المأذون فيه فلا ضمان عندنا، واحتجوا بأحاديث خارج الصحيح صحيحة:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: حديث إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم الخولاني قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول: "العارية مؤداة والزعيم غارم". أخرجه أبو داود، وحسنه الترمذي،

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 435 ] وصححه ابن حبان.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: حديث أمية بن صفوان بن أمية، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعا يوم حنين فقال: أغصب يا محمد؟ قال: "لا، بل عارية مضمونة". رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم، قال: وله شاهد صحيح على شرط مسلم، عن ابن عباس، فذكره.

                                                                                                                                                                                                                              وأما ابن حزم؛ فأعله بشريك كعادته، وتبعه ابن القطان قال: وأمية أخرج له مسلم.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: لا، بل البخاري في "الأدب"، وأما صاحب "الإلمام" فقال بعد أن عزاه إلى "المستدرك": لعله علم حال أمية.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: قد ذكره ابن حبان في "ثقاته".

                                                                                                                                                                                                                              وعن جابر مرفوعا مثله، رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: حديث يعلى بن أمية قال: قال لي رسول الله: " إذا أتتك رسلي فادفع إليهم ثلاثين درعا" فقلت: يا رسول الله، أعارية مضمونة أم عارية مؤداة؟ فقال: "بل عارية مؤداة". رواه أبو داود، والنسائي، وصححه [ ص: 436 ] ابن حبان، وقال ابن حزم: حديث حسن. ليس في شيء مما روي في العارية خبر يصح غيره، وأما ما سواه فليس يساوي الاشتغال به.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: حديث الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه". رواه أصحاب السنن الأربعة، وحسنه الترمذي والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري.

                                                                                                                                                                                                                              ونازعه صاحب "الإلمام"، وذكره ابن حزم بأن قال: الحسن لم يسمع من سمرة.

                                                                                                                                                                                                                              وهو أحد مذاهب ثلاثة فيه، ورأى البخاري وجماعة أنه سمع منه مطلقا، وروي أن ابن عباس، وأبا هريرة ضمنا العارية، واحتج الأول بأن معنى أدائها هو بمعنى قوله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها [النساء: 58]، فإذا بلغت الأمانة لم يلزم المؤتمن غرمها، فكذلك العارية إذا علم أنها قد تلفت; لأنه لم يأخذها على الضمان، ولا هو متعد بالأخذ، فهي أمانة على المستعير، فإذا تلفت بتعديه عليها لزمه قيمتها بجنايته عليها بمنزلة ما لو تعدى عليها، وهي في يد ربها فعليه قيمتها، روي عن علي، وابن مسعود أنه ليس على مؤتمن ضمان.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 437 ] وممن كان لا يضمن المستعير الحسن والنخعي. وقال شريح: ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان. وكتب عمر بن عبد العزيز في العارية: لا يضمن صاحبها إلا أن يطلع منه على خيانة.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية