الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله: إن في خلق السماوات والأرض :

بيان توحده في أفعاله، وأمر لنا بالاستدلال بها، ردا على من نفى حجج العقول..

واعلم أن الدلالة الأصلية على الصانع إثبات حدوث الأجسام والجواهر، أما قوله تعالى على التفصيل: إن في خلق السماوات والأرض فهو من جهة وقوف السماء على غير عمد، ودلالة ذلك من جهة السكون أو الحركة..

وفيه شيء آخر، وهو أن وقوف الثقيل بلا مساك يقله تتعجب منه العامة، مع أن الثقل لا معنى له إلا اعتمادات يخلقها الله تعالى، وليس يجب هوى الجرم، وذهابه في جهة دون جهة، من جهة كثرة الأجزاء وقلتها، غير أن وقوف العظيم غير هاو متعجب منه عند من لا يعرف السبب فيه..

ولا سبب للسكون إلا خلق الله تعالى السكون فيه، ولا يقف حجر في الهواء من غير علاقة، ودل ذلك على القدرة وخرق العادة: ولو جاء نبي وتحدى بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كان معجزا... [ ص: 28 ] وأما اختلاف الليل والنهار فلتعاقبهما، وتعاقبهما على سنن واحد يدل على أول، لاستحالة حوادث لا أول لها..

ودل اتساق هذه الأفعال وحركات الفلك على أن لها صانعا عالما قادرا يدبرها ويديرها.

ودلالة الفلك من جهة أن الجسم السيال كيف يحمل الثقل العظيم، وكيف صار الفلك على عظمه وثقل ما فيه مسخرا للرياح، وذلك يقتضي مسخرا يسخر الفلك والماء والرياح.

والماء المنزل من السماء فيه دليل من جهة أن الماء شابه السيلان، فارتفاعه عجب، ثم إمساكه في السحاب غير سائل منه حتى ينقله إلى الموضع الذي يريده بالسحاب المسخرة لنقله فيه، فجعل السحاب مركبا للماء، والرياح مركبا للسحاب، حتى يسوقه من موضع إلى موضع، ليعم نفعه سائر خلقه، كما قال الله تعالى: أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز ، ثم أنزل ذلك الماء قطرة قطرة، لا تلتقي واحدة مع صاحبتها في الجو، مع تحويل الرياح لها حتى تنزل كل قطرة على حيالها إلى موضعها من الأرض فلولا أن مدبرا دبره على هذا الوجه كيف كان يجوز أن ينزل الماء من السحاب مع كثرته، وهو الذي تسيل منه السيول العظام على هذا الترتيب والنظام، فلو اجتمع القطر، وائتلف في الجو، لقد كان يكون نزولها مثل السيول المجتمعة منها عند نزولها إلى الأرض، فيؤدي ذلك إلى هلاك الحرث والنسل.

واعلم أن من عرف حدوث العالم لأمر مر، يعلم أن فعل الله تعالى [ ص: 29 ] في جميع ما ذكرناه لا بآلة، فلا العلاقة ماسكة، ولا الماء حامل، ولا الريح ولا السحاب مركب، ولا الرياح سابقة، فإنها جمادات لا أفعال لها، وإنما هذه عادات أجراها الله تعالى وليست موجبة، وكذلك حياة الأراضي بالمياه، وخروج أنواع النبات منها ليس بالمياه، ولعل إجراء العادة في إنشاء الخلق على النظام المعلوم تنبيه للعباد عند كل حادث من ذلك على قدرته، والفكر في عظمته، وليشعرهم في كل وقت بما أغفلوه، ويحرك خواطرهم للفكر فيما أهملوه، فخلق الأرض والسماء ثابتتين لا يزولان إلى الوقت المقدر، ثم أنشأ الحيوان من الناس وغيرهم من الأرض، ثم أنشأ للجميع رزقا منها، وأقواتا تبقي حياتهم بها.

ولم يعطهم ذلك الرزق جملة فيظنون أنهم مستغنون بما أعطوا، بل جعل لهم قوتا معلوما في كل سنة بمقدار الكفاية لئلا يبطروا، ويكونوا مستشعرين بالافتقار إليه في كل حال.

ووكل إليهم بعض الأسباب التي يتوصلون بها إلى ذلك من الحرث والزراعة، ليشعرهم أن للأعمال ثمرات من الخير والشر، فيكون ذلك باعثا لهم إلى فعل الخير، ليجتنوا ثمرته، واجتناب الشر ليسلموا من مغبته، فيتولى من الأسباب ما لا يتأتى للخلق تحصيله.

ثم جعل تلك الأسباب داعية لهم إلى الكسب والتبذل في الأعمال الشاقة لئلا يبطروا، وجعل أخلاقهم متفاوتة لتختلف بذلك صناعاتهم وتختلف درجاتهم في المهن والأعمال، وأنزل ما أنزل إلى الأرض بمقدار الحاجة، ثم لم يقتصر فيما أنزله من السماء على منافعه في وقت نزوله، حتى جعل للماء مخازن وينابيع في الأرض يجتمع فيها ذلك الماء فيخزن أولا فأولا على مقدار الحاجة، كما قال تعالى: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع [ ص: 30 ] في الأرض ، وقال:

وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون ..

ولو كان اقتصر على ما ينزل من السماء من غير حبس له في الأرض إلى وقت الحاجة لكان قد سال كله، وكان في ذلك هلاك الحيوانات كلها، فجعل الأرض بمثابة بيت يأوي إليه الإنسان، والسماء بمنزلة السقف، وجعل ما يحدثه من المطر والنبات والحيوان والملابس والمطاعم، بمنزلة ما ينقله الإنسان إلى بيته لمصالحه.

ثم سخر هذه الأرض لنا، وذللها للمشي عليها وسلوك طرقها، ومكننا من الانتفاع بها في بناء الدور والبيوت للسكن من المطر والحر والبرد، وتحصينا من الأعداء، ولم يحوجنا إلى غيرها، وأي موضع أردنا منها بالانتفاع بها . في إنشاء الأبنية مما هو موجود فيها من الحجارة والجص والطين، ومما يخرج منها من الخشب والحطب أمكننا ذلك.

وسهل علينا، سوى ما أودعها من الجواهر التي عقد بها منافعها من الذهب والفضة والحديد والرصاص والنحاس وغير ذلك، كما قال تعالى: وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام ..

فهذه كلها، وما يكثر تعداده، ولا يحيط به علمنا من بركات الأرض ومنافعها..

ثم لما كانت مدة أعمارنا وسائر الحيوان لا بد أن تكون متناهية، جعلها كفاتا لنا بعد الموت كما جعلها في الحياة، فقال: [ ص: 31 ] ألم نجعل الأرض كفاتا، أحياء وأمواتا ، وقال:

إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها الآية..

ثم لم يقتصر فيما خلق من النبات والحيوان على الملذ دون المؤلم، ولا على الغذاء دون السم، ولا على الحلو دون المر، بل مزج ذلك كله ليشعرنا أنه غير مريد منا الركون إلى هذه الدار، لئلا تطمئن نفوسنا إليها فنشتغل بها عن الدار الآخرة التي خلقنا لها، فكان النفع في خلق الدواب المؤذية كالنفع في اللذة السارة، ليشعرنا في هذه الدار كيفية الآلام، ليتضح الوعيد بألم الآخرة، وينزجر عن القبائح، فإذا رأى حرا مفرطا تذكر نار جهنم فيتعوذ بالله منها، وإذا رأى بردا مفرطا تذكر برد الزمهرير فيتعوذ منه، واستدل بالقليل الفاني على الكثير الباقي، وانزجر عن القبائح طلبا لنعيم محض لا يشوبه كدر.

وفي قوله تعالى: والفلك التي تجري في البحر دلالة على إباحة ركوب البحر تاجرا وغازيا، وطالبا صنوف المآرب.

وقال في موضع آخر:

هو الذي يسيركم في البر والبحر . وقال:

ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله .. [ ص: 32 ] فقد انتظم التجارة وغيرها، كقوله تعالى:

فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض .

أن تبتغوا فضلا من ربكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية