الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 130 ] شبه مردودة :

هناك شبه يثيرها أهل الأهواء لتوهين الثقة بالقرآن ، والتشكيك في دقة جمعه ، ونحن نورد أهمها ونرد عليها :

1- قالوا : إن الآثار قد دلت على أن القرآن قد سقط منه شيء لم يكتب في المصاحف التي بأيدينا اليوم :

أ- عن عائشة قالت : سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلا يقرأ في المسجد فقال : " يرحمه الله ، لقد أذكرني كذا وكذا آية من سورة كذا " ، وفي رواية : " أسقطتهن من آية كذا وكذا " ، وفي رواية : " كنت أنسيتها “ .

ويجاب عن هذا بأن تذكير الرسول -صلى الله عليه وسلم- بآية أو آيات قد أنسيها أو أسقطها نسيانا لا يشكك في جمع القرآن ، فإن الرواية التي جاء فيها التعبير بالإسقاط تفسرها الرواية الأخرى : " كنت أنسيتها " وهذا يدل على أن المراد بإسقاطها نسيانها ، كما يدل عليه لفظ " أذكرني " والنسيان جائز على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما لا يخل بالتبليغ ، وكانت هذه الآيات قد حفظها رسول الله ، واستكتبها كتاب الوحي ، وحفظها الصحابة في صدورهم ، وبلغ حفظها وكتابتها مبلغ التواتر ، فنسيان الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها بعد ذلك لا يؤثر في دقة جمع القرآن ، وهذا هو غاية ما يدل عليه الحديث . ولذا كانت قراءة هذا الرجل -وهو أحد الحفظة الذين يبلغ عددهم حد التواتر- مذكرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد أذكرني كذا وكذا آية " .

ب- وقال تعالى في سورة الأعلى : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ، والاستثناء يدل على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنسي بعض الآيات .

ويجاب عن ذلك بأن الله تعالى قد وعد رسوله بإقراء القرآن وحفظه ، وأمنه من النسيان في قوله : سنقرئك فلا تنسى ولما كانت الآية توهم لزوم ذلك ، والله تعالى فاعل مختار : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، جاء الاستثناء [ ص: 131 ] إلا ما شاء الله للدلالة على أن هذا الإخبار بإقراء الرسول القرآن وتأمينه من النسيان ليس خارجا عن إرادته تعالى ، فإنه سبحانه لا يعجزه شيء ، يقول الشيخ محمد عبده في تفسير الآية : " ولما كان الوعد على وجه التأبيد واللزوم ، ربما يوهم أن قدرة الله لا تتسع غيره ، وأن ذلك خارج عن إرادته جل شأنه ، جاء بالاستثناء في قوله : إلا ما شاء الله فإنه إذا أراد أن ينسيك شيئا لم يعجزه ذلك ، فالقصد هو نفي النسيان رأسا ، وقالوا : إن ذلك كما يقول الرجل لصاحبه : " أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله " لا يقصد استثناء شيء ، وهو من استعمال القلة في معنى النفي ، وعلى ذلك جاء الاستثناء ، في قوله تعالى في سورة هود : وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ، أي غير مقطوع ، فالاستثناء في مثل هذا للتنبيه على أن ذلك التأبيد والتخليد بكرم من الله وسعة جوده ، لا بتحتيم عليه وإيجاب ، وأنه لو أراد أن يسلب ما وهب لم يمنعه من ذلك مانع .

وما ورد من أنه -صلى الله عليه وسلم- نسي شيئا كان يذكره ، فذلك إن صح ، فهو في غير ما أنزل الله من الكتاب والأحكام التي أمر بتبليغها ، وكل ما يقال غير ذلك فهو من مدخلات الملحدين ، التي جازت على عقول المغفلين ، فلوثوا بها ما طهره الله ، فلا يليق بمن يعرف قدر صاحب الشريعة -صلى الله عليه وسلم- ويؤمن بكتاب الله أن يتعلق بشيء من ذلك " . .

2- وقالوا : إن في القرآن ما ليس منه ، واستدلوا على ذلك بما روي من أن ابن مسعود أنكر أن المعوذتين من القرآن .

ويجاب عن ذلك بأن ما نقل عن ابن مسعود -رضي الله عنه- لم يصح ، وهو مخالف لإجماع الأمة ، قال النووي في شرح المهذب : " وأجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن ، وأن من جحد شيئا منها كفر ، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح " ، وقال ابن حزم : " هذا كذب على ابن مسعود وموضوع " .

[ ص: 132 ] وعلى فرض صحته ، فالذي يحتمل : أن ابن مسعود لم يسمع المعوذتين من النبي -صلى الله عليه وسلم- فتوقف في أمرهما .

وإنكار ابن مسعود لا ينقض إجماع الأمة على أن المعوذتين من القرآن المتواتر .

ومثل هذا يجاب به على ما قيل من أن مصحف ابن مسعود قد أسقطت منه الفاتحة ، فإن الفاتحة هي أم القرآن ، ولا تخفى قرآنيتها على أحد .

3- ويزعم نفر من غلاة الشيعة أن أبا بكر وعمر وعثمان حرفوا القرآن ، وأسقطوا بعض آياته وسوره ، فحرفوا لفظ : أمة هي أربى من أمة ، والأصل : " أئمة هي أزكى من أئمتكم " ، وأسقطوا من سورة " الأحزاب " آيات فضائل أهل البيت ، وقد كانت في طولها مثل سورة " الأنعام " ، وأسقطوا سورة الولاية بتمامها من القرآن .

ويجاب عن ذلك بأن هذه الأقوال أباطيل لا سند لها ، ودعاوي لا بينة عليها ، والكلام فيها حمق وسفاهة ، وقد تبرأ بعض علماء الشيعة من هذا السخف ، والمنقول عن علي -رضي الله عنه- الذي يدعون التشيع له ، يناقضه ، ويدل على انعقاد الإجماع بتواتر القرآن الذي بين دفتي المصحف ، فقد أثر عنه أنه قال في جمع أبي بكر : " أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر ، رحمة الله على أبي بكر ، هو أول من جمع كتاب الله " ، وقال في جمع عثمان : " يا معشر الناس ، اتقوا الله ، وإياكم والغلو في عثمان وقولكم : حراق مصاحف ، فوالله ما حرقها إلا عن ملأ منا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، وقال : " لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان " .

فهذا الذي أثر عن علي نفسه يقطع ألسنة أولئك المفترين الذين يزعمون نصرته فيهرفون بما لا يعرفون تشيعا له ، وهو منهم براء .

"

التالي السابق


الخدمات العلمية