الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 84 ] فصل ( في حقيقة التوبة وشروطها )

والتوبة هي : الندم على ما مضى من المعاصي والذنوب ، والعزم على تركها دائما لله عز وجل لا لأجل نفع الدنيا أو أذى ، وأن لا تكون عن إكراه أو إلجاء ، بل اختيارا حال التكليف ، وقيل : يشترط مع ذلك : اللهم إني تائب إليك من كذا ، وكذا ، وأستغفر الله ، وهو ظاهر ما في المستوعب ، فظاهر هذا اعتبار التوبة بالتلفظ والاستغفار ، ولعل المراد اعتبار أحدهما ولم أجد من صرح باعتبارهما ولا أعلم له وجها .

وقد روى الترمذي وقال حسن غريب عن أنس مرفوعا { قال الله عز وجل يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة } فقوله : ثم استغفرتني غفرت لك علق الغفران على الاستغفار دل على اعتباره ، والمراد أنه استغفر من ذنوبه توبة وإلا فالاستغفار بلا توبة لا يوجب الغفران قال ذو النون المصري : وهو توبة الكذابين ، ولهذا قال في شرح مسلم : ( باب سقوط الذنوب بالاستغفار توبة ) يريد ما في مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله عز وجل فيغفر لهم } لكن الاستغفار بلا توبة فيه أجر كغيره من ذكر الله عز وجل والله أعلم وقد قال الله تعالى : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } .

والأولى وهو أنه لا يشترط ذلك هو الذي ذكره في الشرح وقدمه [ ص: 85 ] في الرعاية وذكره ابن عقيل في الإرشاد وزاد : وأن يكون إذا ذكرها انزعج قلبه ، وتغيرت صفته ولم يرتح لذكرها ولا ينمق في المجالس صفتها فمن فعل ذلك لم تكن توبة ، ألا ترى أن المعتذر إلى المظلوم من ظلمه متى كان ضاحكا مستبشرا مطمئنا عند ذكره الظلم استدل به على عدم الندم ، وقلة الفكرة بالجرم السابق ، وعدم الاكتراث بخدمة المعتذر إليه ويجعل كالمستهزئ تكرر ذلك منه أم لا ، كذا قال وعلى تقدير أن تمكن المنازعة في هذا المعنى إنما يدل على اعتبار ذلك وقت الندم .

والغرض الندم المعتبر وقد وجد فما الدليل على اعتبار تكرره كلما ذكر الذنب ؟ وإن عدم ذلك يدل على عدم الندم والأصل عدم اعتباره ، وعدم الدليل عليه مع أن ظاهر قوله : عليه السلام { الندم توبة } أنه لا يعتبر وهذه الزيادة وهي تجديد الندم إذا ذكره قول أبي بكر بن الباقلاني ، والأول قول إمام الحرمين وغيره ، مع أن قول الشافعية وغيرهم : أن توبته السابقة لا تبطل بمعاودة الذنب خلافا للمعتزلة في بطلانها بالمعاودة .

وقال ابن عقيل : والدلالة على أن الندم توبة مع شرط العزم أن لا يعود ، ورد المظلمة من يده خلافا للمعتزلة في قولهم : الندم مع هذه الشرائط هو التوبة ، وليس فيها شرط بل هي بمجموعها توبة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : الندم توبة } وليس لهم أن يقولوا : أجمعنا على احتياجها إلى العزم ; لأن ذلك شرط ولا يوجب أن يكون هو التوبة كما أن الصلاة من شرطها الطهارة ، ولا تصح إلا بها وليست هي الصلاة ; لأن التوبة هي الندم والإقلاع عن الذنب فمن ادعى الزيادة على ما اقتضته اللغة يحتاج إلى دليل انتهى كلامه . وكلام الأصحاب السابق يدل على أن العزم ركن ، والأمر في هذا قريب فإنه معتبر عندهم .

وإن كف حياء من الناس لم تصح ، ولا تكتب له حسنة ، وخالف بعضهم ، وهي التوبة النصوح كما قال الحسن البصري قال : ندم بالقلب [ ص: 86 ] واستغفار باللسان ، وترك بالجوارح ، وإضمار أن لا يعود .

وقال البغوي في تفسيره : قال عمر ، وأبي ومعاذ رضي الله عنهم : التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع كذا قال والكلام في صحته عنهم ، ثم لعل المراد التوبة الكاملة بالنسبة إلى غيرها .

وقال الكلبي : هي أن يستغفر باللسان ، ويندم بالقلب ، ويمسك بالبدن ، فظاهره أنه لا يعتبر إضرار أن لا يعود ، ولم أجد من صرح بعدم اعتباره ، ولم يذكر ابن الجوزي عن عمر ألا إن التوبة النصوح أن يتوب العبد من الذنب وهو يحدث نفسه أن لا يعود .

وقرأ أبو بكر عن عاصم : نصوحا بضم النون وهو مصدر مثل القعود يقال : نصحت له نصحا ونصاحة ، ونصوحا وقيل : أراد توبة نصح لأنفسكم ، وقرأ الباقون بفتحها قيل هو مصدر ، وقيل : هو اسم فاعل أي : ناصحة على المجاز .

وروى أحمد عن ابن مسعود مرفوعا { التوبة من الذنب أن يتوب منه ثم لا يعود فيه } ولعل المراد إن صح الخبر ثم ينوي أن لا يعود فيه .

وقال في الشرح في قبول شهادة القاذف : قال النبي صلى الله عليه وسلم { التائب من الذنب كمن لا ذنب له } وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { الندم توبة } قيل : التوبة النصوح تجمع أربعة أشياء : الندم بالقلب ، والاستغفار باللسان ، وإضمار أن لا يعود ، ومجانبة خلطاء السوء ، قد تقدم في آخر فصل ، ولا تصح التوبة من ذنب مع الإقامة على مثله من كلامه في الرعاية ، وذكر في الرعاية في مكان آخر أو غيرها فيه روايتين ولعل من اعتبره يقول : مع عدم المجانبة يختل العزم ، أو يقول : المخالطة ذريعة ، ووسيلة إلى مواقعة المحظور والذرائع معتبرة ، ولأن المسألة تشبه التفرق في قضاء الحج الفاسد ولهذا جعلها ابن عقيل أصلا لعدم الوجوب في قضاء الحج الفاسد والله أعلم .

أما الحديث الأول فرواه ابن ماجه حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي [ ص: 87 ] حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي حدثنا وهيب بن خالد حدثنا معمر عن عبد الكريم عن أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { التائب من الذنب كمن لا ذنب له } كلهم ثقات وعبد الكريم هو الجزري بلا شك وأبو عبيدة هو ابن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه .

وأما الحديث الثاني فرواه الإمام أحمد حدثنا سفيان عن عبد الكريم أخبرني زياد بن أبي مريم عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال : دخلت مع أبي على عبد الله بن مسعود قال : أنت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { الندم توبة } قال : نعم وقال مرة نعم سمعته يقول : { الندم توبة } ورواه ابن ماجه حدثنا هشام بن عمار حدثنا سفيان عن عبد الكريم الجزري فذكره بمعناه ، كلهم ثقات وزياد وثقه أحمد بن عبد الله العجيلي ولم يرو عنه غير عبد الكريم بن مالك الجزري ، والصحيح أنه غير زياد بن الجراح ، ورواه ابن حبان في صحيحه : أنبأنا أبو عروبة حدثنا المسيب بن واضح حدثنا يوسف بن أسباط عن مالك بن مغول عن منصور بن خيثمة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الندم توبة } .

أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي حدثنا محفوظ بن أبي ثوبة حدثنا عثمان بن صالح السهمي حدثنا ابن وهيب عن يحيى بن أيوب سمعت حميدا الطويل يقول : قلت لأنس بن مالك أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الندم توبة } قال : نعم محفوظ ضعفه أحمد ولعل حديثه حسن .

ولأحمد من حديث ابن عباس { كفارة الذنب الندامة } وله من حديث علي { إن الله يحب العبد المؤمن المفتن التواب } .

وعن عثمان بن واقد عن أبي نضرة عن مولى لأبي بكر عن أبي بكر الصديق مرفوعا { ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة } رواه أبو داود والترمذي وفي لفظ { ولو فعله في اليوم سبعين مرة } وقال حديث غريب وليس إسناده بالقوي كذا قال الترمذي وهو حديث حسن ومولى أبي بكر لم يسم والمتقدمون حالهم حسن .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي [ ص: 88 ] عن ربه عز وجل قال { إذا أذنب ذنبا عبدي فقال : اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب . ثم عاد فأذنب فقال : أي رب اغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى : عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب . ثم عاد فأذنب فقال : أي رب اغفر لي ذنبي ، فقال تبارك وتعالى : أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ، اعمل ما شئت فقد غفرت لك } . وفي رواية { قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء } لم يقل البخاري { اعمل ما شئت ولا فليعمل ما شاء } ومعناه ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك وقال في نهاية المبتدئين قال أبو الحسين : التوبة ندم العبد على ما كان منه ، والعزم على ترك مثله كلما ذكره ، وتكرار فعل التوبة كلما خطرت معصيته بباله ، ومن لم يفعل ذلك عاد مصرا ناقضا للتوبة .

وهذا معنى كلام ابن عقيل السابق لكن أبو الحسين يقول : يكون ناقضا للتوبة ، وعند ابن عقيل يدل على عدم الندم فلم توجد عنده توبة شرعية . وبطلانها بالمعاودة أقرب من هذا الخبر ابن مسعود وقول الصحابة والأظهر مذهبا ودليلا أنها لا تبطل بذلك لما سبق .

وقال ابن عقيل في الفصول أن المظاهر إذا عزم على الوطء رجع عن تحريمها بعزمه قال : وهذا يدل على أن العزم على معاودة الذنب مع التصميم على التوبة نقض للتوبة . فجعله ناقضا للتوبة بالعزم لا بغيره وهذا أظهر من كلامه السابق وكلام أبي الحسين ثم إن أراد أنه يؤاخذ بالذنب السابق الذي تاب منه كما هو ظاهر كلامه فضعيف . وإن أراد انتقاض التوبة وقت العزم بالنسبة إلى المستقبل وأن يؤاخذ بالعزم بالنسبة إلى المستقبل فهذا ينبني على المؤاخذة بأعمال القلوب ، ويأتي الكلام فيها في الفصل بعده أو الذي يليه .

ولهذا قال ابن عقيل بعد كلامه المذكور في المظاهر قال : فإن وطئ كان من طريق الأولى عائدا ; لأن فعل الشيء آكد من العزم عليه ، ولذلك اختلف الناس في العزم هل يؤاخذ به العازم ولم يختلفوا في أن الأفعال يؤاخذ بها ، وهذا من ابن عقيل يدل على أن الإبطال عنده بالمعاودة كقول المعتزلة من طريق الأولى والله أعلم .

وكذا قال في نهاية المبتدئين [ ص: 89 ] لا تصح توبة من نقض توبته ثم عزم على مثل ما تاب منه أو فعله ، والأجود في العبارة نقضها بعزمه على ذلك ، أو فعله .

وقال في الرعاية الكبرى : تصح توبة من نقض توبته على الأقيس .

ويعتبر للتوبة أن يخرج من حق الآدمي فيرد المغصوب أو بدله ، وإن عجز عن ذلك نوى رده متى قدر عليه وقد سبق الكلام في ذلك ، ويمكن من نفسه من قود عليه وكذا من حد القذف ، والمراد إن قلنا لا يسقط بالتوبة كما هو المشهور ويؤدي حق الله عز وجل حسب إمكانه . ولا يشترط الإقرار بما يوجب الحد .

والأولى له ستر نفسه إن لم يشتهر عنه وكذا إن اشتهر عند الشيخ وعند القاضي الأولى الإقرار به ليقام عليه الحد . ولا يعتبر في صحة التوبة من الشرك إصلاح العمل وكذا غيره من المعاصي في حصول المغفرة وكذا في أحكام التوبة في قبول الشهادة وغير ذلك وعنه يعتبر سنة قال بعضهم : إلا أن يكون ذنبه الشهادة بالزنا ولم يكمل عدد الشهود فإنه يكفي مجرد التوبة وقيل : إن فسق بفعله وإلا فلا يعتبر ذلك وقيل : يعتبر مدى مدة يعلم منها حاله بذلك وعلى المذهب الأول يكون المراد بقوله في سورة النور : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } .

أي في التوبة ، فيكون الإصلاح من التوبة ، والعطف لاختلاف اللفظين ذكره في المغني . وذكر ابن الجوزي قول ابن عباس : أظهروا التوبة وإن غيره قال : لم يعودوا إلى قذف المحصنات .

وقال أيضا : الإصلاح من التوبة في آية البقرة .

{ إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم } ، وقوله في سورة النساء : { إلا الذين تابوا وأصلحوا } [ ص: 90 ]

وفي سورة الفرقان : { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا } جمعا بينه وبين المغفرة بالاستغفار والندم وقوله { الإسلام يهدم ما كان قبله } وقد قال ابن حامد في كتاب الأصول : إنه يجيء على مقالة بعض أصحابنا من شرط صحتها وجود أعمال صالحة ، ولظاهر الآية { إلا من تاب } وقوله : { من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما كان في الجاهلية ، ومن أساء أخذ بالأول والآخر } كذا قال وهو غريب .

ومن صحت توبته فهل تغفر خطيئته فقط أم تغفر ويعطى بدلها حسنة ظاهر الأدلة من الكتاب والسنة الأول وهو حصول المغفرة خاصة وهذا ظاهر كلام أصحابنا وغيرهم .

وفي مسلم عن أبي سلمة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله عز وجل لهم ويضعها على اليهود والنصارى } ومعناه يضع عليهم بكفرهم وذنوبهم فيدخلهم النار بذلك لقوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى }

وقوله { ويضعها } أي يضع عليهم مثلها بذنوبهم ، وقد قيل : يحتمل أنه وضع على الكفار مثلها لكونهم سنوها { ومن سن سنة سيئة كان عليه مثل وزر من عمل بها } .

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا قال له : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى قال سمعته يقول { إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره ويقول : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول : نعم أي رب ، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته ، وأما المنافق والكافر فيقول الأشهاد : { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين } } [ ص: 91 ] متفق عليه قيل كنفه هو ستره وعفوه .

وأما قوله تعالى : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } الآية فقيل سبب نزولها ما في الصحيحين عن ابن مسعود قال { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت ثم أي ؟ فقال أن تزني بحليلة جارك فأنزل الله تصديقها : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } الآية } وقيل : { إن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة فنزلت هذه الآية إلى قوله : { غفورا رحيما } } رواه مسلم من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس .

وأما قوله تعالى : { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } .

قال ابن الجوزي : اختلفوا في هذا التبديل وفي زمان كونه فقال ابن عباس يبدل الله شركهم إيمانا ، وقتلهم إمساكا ، وزناهم إحصانا قال : وهذا يدل على أنه يكون في الدنيا ، وممن ذهب إلى هذا المعنى سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد .

( والثاني ) أن ذا يكون في الآخرة قاله سلمان رضي الله عنه وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين .

وقال عمرو بن ميمون بن مهران يبدل الله عز وجل سيئات المؤمن إذا غفرها له حسنات حتى إن العبد يتمنى أن تكون سيئاته أكثر مما هي . وعن الحسن كالقولين وروي عن الحسن قال : ود قوم [ ص: 92 ] يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا استكثروا يعني : الذنوب فقيل من هم ؟ قال : هم الذين قال الله فيهم : { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات }

قال ابن الجوزي : ويؤكد هذا القول حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فيعرض عليه صغار ذنوبه فيقال : عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول : نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له : إن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول : رب قد عملت أشياء لا أراها ههنا فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه } .

فهذا الحديث في رجل خاص وليس فيه ذكر للتوبة فيجوز أنه حصل له هذا بفضل رحمة الله عز وجل لا بسبب منه بتوبته ولا غيرها كما ينشئ الله عز وجل للجنة خلقا بفضل رحمته فلا حجة فيه لهذا القول في هذه المسألة .

وأما الآية فهي محتملة للقولين والأول توافقه ظواهر عموم الأدلة ولا ظهور فيها للقول الثاني فكيف يقال تبديل خاص بلا دليل خاص مع مخالفته للظواهر ؟ ولا يقال كلاهما تبديل فمن قال بالثاني فقد قال بظاهر الآية ; لأن التبديل لا عموم فيه ، فإذا قيل فيه بتبديل متفق عليه توافقه ظواهر الكتاب والسنة كان أول وعلى أن القول الثاني يجوز أن يكون لمن شاء الله بفضل رحمته أو لمن عمل صالحا ، فالقول بالعموم لكل تائب يفتقر إلى دليل .

وفي الآية وظواهر الأدلة ما يخالفه والله تعالى أعلم . والنواجذ هنا الأنياب عند الجمهور وقيل : الضواحك والضاحكة السن بين الأنياب والأضراس وهي أربع ضواحك . وقيل : الأضراس كما هو الأشهر في إطلاق النواجذ في اللغة ، وللإنسان أربعة نواجذ في أقصى الأسنان بعد الأرحاء ، ويقال : ضرس الحلم بضم اللام وسكونها ; لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل .

التالي السابق


الخدمات العلمية