الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        في كيفية الغسل

                                                                                                                                                                        أقله شيئان :

                                                                                                                                                                        أحدهما : النية ، وهي واجبة ، وتقدم ذكر فروعها في صفة الوضوء . ولا يجوز أن يتأخر عن أول الغسل المفروض ، فإن اقترنت به كفى ، ولا ثواب له في السنن المتقدمة . وإن تقدمت على المفروض وعزبت قبله ، فوجهان ، كما في الوضوء ، ثم إن نوى رفع الجنابة ، أو رفع الحدث عن جميع البدن ، أو نوت الحائض رفع حدث الحيض ، صح الغسل . وإن نوى رفع الحدث ، ولم يتعرض للجنابة ولا غيرها ، صح غسله على الأصح ، ولو نوى رفع الحدث الأصغر متعمدا ، لم يصح غسله على الأصح ، وإن غلط ، فظن حدثه الأصغر ، لم ترتفع الجنابة عن غير أعضاء الوضوء . وفي أعضاء الوضوء وجهان ، أحدهما : لا يرتفع ، وأصحهما : يرتفع عن الوجه واليدين والرجلين ، دون الرأس على الأصح ، ولو نوى استباحة ما يتوقف عن الغسل ، كالصلاة ، والطواف ، وقراءة القرآن ، أجزأه . ولو نوت الحائض استباحة الوطء ، صح على الأصح . وإن نوى ما لا يستحب له الغسل ، لم يصح . وإن نوى ما يستحب له ، كالعبور [ ص: 88 ] في المسجد ، والأذان ، وغسل الجمعة ، والعيد ، لم يجزئه على الأصح ، كما سبق في الوضوء . ولو نوى الغسل المفروض ، أو فريضة الغسل ، أجزأه قطعا .

                                                                                                                                                                        الثاني : استيعاب جميع البدن بالغسل ، ومن ذلك ما ظهر من صماخي الأذنين ، والشقوق في البدن ، وكذا ما تحت القلفة من الأقلف ، وما ظهر من أنف المجدوع على الأصح فيهما ، وكذا ما يبدو من الثيب إذا قعدت لقضاء الحاجة ، على أصح الأوجه ، وعلى الثاني : لا يجب غسل ما وراء ملتقى الشفرين ، وعلى الثالث : يجب في غسل الحيض والنفاس خاصة ، لإزالة دمهما ، ولا يجب ما وراء ما ذكرناه قطعا ، ولا المضمضة ، والاستنشاق . ويجب إيصال الماء جميع الشعور التي على البشرة ، وإلى منابتها ، وإن كثفت ، ولا يجب غسل شعر نبت في العين ، ويسامح ببطن العقد التي على الشعرات على الأصح ، وعلى وجه يجب قطعها .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الذي صححه هو الذي صححه صاحب ( البحر ) والصحيح : أنه لا يعفى عنه ، لأنه يمكن قطعها بلا خلاف ، وهو ظاهر نص الشافعي والجمهور ، وقد أوضحته في شرح ( المهذب ) . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ويجب نقض الظفائر إن لم يصل الماء إلى باطنها إلا بالنقض ، ولا يجب إن وصل .

                                                                                                                                                                        أما أكمل الغسل فيحصل بأمور . الأول : أن يغسل ما على بدنه من أذى أولا ، كالمني ونحوه من القذر الطاهر ، وكذا النجس . وتقديم إزالة النجاسة شرط لصحة الغسل . فلو غسل غسلة واحدة بنية الحدث والنجس ، طهر عن النجس . ولا يطهر عن الحدث على المذهب .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح أنه يطهر عن الحدث أيضا ، وقد تقدم . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 89 ] وإذا قلنا : الغسلة الواحدة تكفي عن الحدث والنجس ، كان تقديم إزالة النجاسة من الكمال . وإن قلنا : لا يكفي ، لم تكن الإزالة من الكمال ، ولا من الأركان ، بل تكون شرطا ، خلافا لكثير من أصحابنا ، حيث قالوا : واجبات الغسل ثلاثة : غسل النجاسة إن كانت ، والنية ، والاستيعاب . الثاني : أن يتوضأ ، كما يتوضأ للصلاة . وتحصل سنة الوضوء سواء أخر غسل القدمين إلى الفراغ ، أو فعله بعد مسح الرأس والأذن . وأيهما أفضل . قولان . المشهور أنه لا يؤخر . ثم إن تجردت الجنابة عن الحدث ، فالوضوء مندوب . وإن اجتمعا ، فقد قدمنا في آخر باب صفة الوضوء الخلاف في اندراجه في الغسل ، فإن قلنا بالمذهب : أنه يندرج ، فالوضوء مندوب ، ويعد من سنن الغسل . وإن أوجبنا الوضوء ، امتنع عده من سنن الغسل ، فإنه لا صائر إلى أن يأتي بوضوءين ، بل يقتصر على وضوء . فإن شاء قدمه على الغسل ، وإن شاء أخره . وعلى هذا لا بد من إفراد الوضوء بالنية . وإذا قلنا بالاندراج ، لا يحتاج إلى إفراده بنية .

                                                                                                                                                                        قلت : المختار أنه إن تجردت الجنابة ، نوى بوضوئه سنة الغسل ، وإن اجتمعا ، نوى به رفع الحدث الأصغر . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        واعلم أنه يتصور تجرد الجنابة في صور . منها أن يولج في بهيمة أو دبر رجل . ومنها أن يلف على ذكره خرقة ويولجه ، وإذا قلنا : إنه يجب الغسل . ومنها إذا أنزل المتوضئ المني بنظر ، أو فكر ، أو في النوم قاعدا . وأما جماع المرأة بلا حائل ، فيقع به الحدثان على الصحيح ، وقيل : تقتضي الجنابة فقط ، ويكون اللمس مغمورا .

                                                                                                                                                                        الثالث : أن تتعهد مواضع الانعطاف ، والالتواء ، كالأذنين ، وغضون البطن ، ومنابت الشعر . ويخلل أصول الشعر بالماء قبل إفاضته .

                                                                                                                                                                        [ ص: 90 ] الرابع : يفيض الماء على رأسه ، ثم على شقه الأيمن ، ثم الأيسر ، ويكون غسل جميع البدن ثلاثا ، كالوضوء ، فإن اغتسل في نهر ونحوه ، انغمس ثلاث مرات ، ويدلك في كل مرة ما يصل يده . ولا يستحب تجديد الغسل على الصحيح .

                                                                                                                                                                        الخامس : إذا اغتسلت عن حيض ، أو نفاس ، يسن لها أن تأخذ طيبا وتجعله في قطنة ، أو نحوها ، وتدخلها فرجها ، والمسك أولى من غيره . فإن لم تجده ، فطيبا آخر ، فإن لم تجد ، فطينا ، فإن لم تفعل ، فالماء كاف .

                                                                                                                                                                        السادس : ماء الوضوء والغسل غير مقدر ، ويستحب أن لا ينقص ماء الوضوء عن مد ، وماء الغسل عن صاع تقريبا .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح المد هنا : رطل وثلث بالبغدادي على المذهب . وقيل : رطلان . والصاع أربعة أمداد . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        السابع : يستحب أن يستصحب النية إلى آخر الغسل ، وأن لا يغتسل في الماء الراكد ، وأن يقول بعد الفراغ : ( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ) وقد تقدم في باب صفة الوضوء سنن كثيرة تدخل هنا .

                                                                                                                                                                        قلت : لا يجوز الغسل بحضرة الناس إلا مستور العورة . ويجوز في الخلوة مكشوفها ، والستر أفضل . ولو ترك المغتسل المضمضة والاستنشاق ، أو الوضوء ، قال الشافعي والأصحاب - رحمهم الله - : فقد أساء ، ويستحب أن يتدارك ذلك ، ولا يجب ترتيب في أعضاء المغتسل ، لكن يستحب البداءة بأعضاء الوضوء ثم بالرأس وأعالي [ ص: 91 ] البدن . ولو أحدث في أثناء غسله ، جاز أن يتمه ، ولا يمنع الحدث صحته ، لكن لا يصلي حتى يتوضأ . ويجوز الغسل من إنزال المني قبل البول ، والأفضل بعده لئلا يخرج بعده مني . ولا يجب غسل داخل العين ، وحكم استحبابه على ما سبق في الوضوء . ولو غسل بدنه إلا شعرة أو شعرات ثم نتفها ، قال الماوردي : إن كان الماء وصل أصلها ، أجزأه ، وإلا لزمه إيصاله إليه . وفي فتاوى ابن الصباغ : يجب غسل ما ظهر ، وهو الأصح . وفي ( البيان ) وجهان . أحدهما : يجب . والثاني : لا لفوات ما يجب غسله ، كمن توضأ وترك رجله فقطعت . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية