الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 379 ] قوله - عز وجل -:

وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين

"القاهر": إن أخذ صفة فعل - أي مظهر القهر بالصواعق؛ والرياح؛ والعذاب - فيصح أن يجعل "فوق"؛ ظرفية للجهة؛ لأن هذه الأشياء إنما تعاهدها العباد من فوقهم؛ وإن أخذ "القاهر"؛ صفة ذات - بمعنى القدرة؛ والاستيلاء - فـ "فوق"؛ لا يجوز أن تكون للجهة؛ وإنما هي لعلو القدر؛ والشأن؛ على حد ما تقول: "الياقوت فوق الحديد".

ويرسل عليكم ؛ معناه: "يبثهم فيكم"؛ و"حفظة"؛ جمع "حافظ"؛ مثل "كاتب"؛ و"كتبة"؛ والمراد بذلك الملائكة الموكلون بكتب الأعمال؛ وروي أنهم الملائكة الذين قال فيهم النبي - صلى اللـه عليه وسلم -: "تتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار"؛ وقاله السدي ؛ وقتادة ؛ وقال بعض المفسرين: "حفظة يحفظون الإنسان من كل شيء؛ حتى يأتي أجله"؛ والأول أظهر؛ وكلهم - غير حمزة - قرأ: "توفته رسلنا"؛ على تأنيث لفظ الجمع؛ كقوله - عز وجل -: ولقد كذبت رسل من قبلك ؛ وقرأ حمزة : "توفاه رسلنا"؛ وحجته أن التأنيث غير حقيقي؛ وظاهر الفعل أنه ماض؛ كقوله تعالى "وقال نسوة"؛ ويحتمل أن يكون بمعنى: "تتوفاه"؛ فتكون العلامة مؤنثة؛ وأمال حمزة من حيث خط المصحف بغير ألف؛ فكأنها إنما كتبت على الإمالة؛ وقرأ الأعمش : "يتوفاه رسلنا"؛ بزيادة ياء في أوله؛ والتذكير.

وقوله تعالى "رسلنا" يريد به - على ما ذكر ابن عباس - رضي الله عنهما - وجميع أهل التأويل - ملائكة مقترنين بملك الموت؛ يعاونونه؛ ويأتمرون له.

وقرأ جمهور الناس: "لا يفرطون"؛ بالتشديد؛ وقرأ الأعرج : "يفرطون"؛ بالتخفيف؛ [ ص: 380 ] ومعناه: "يجاوزون الحد مما أمروا به"؛ قال أبو الفتح: فكما أن المعنى في قراءة العامة: "لا يقصرون"؛ فكذلك هو في هذه: "لا يزيدون على ما أمروا به".

ورجع اللفظ في قوله: "ردوا"؛ من الخطاب إلى الغيبة؛ والضمير في "ردوا"؛ عائد على المتقدم ذكرهم؛ ويظهر أن يعود على العباد؛ فهو إعلام برد الكل؛ وجاءت المخاطبة بالكاف في قوله: "عليكم"؛ تقريبا للموعظة من نفوس السامعين؛ و"مولاهم"؛ لفظ عام لأنواع الولاية؛ التي تكون بين الله تعالى ؛ وبين عبيده؛ من الرزق؛ والنصرة؛ والمحاسبة؛ والملك؛ وغير ذلك؛ وقوله: "الحق"؛ نعت لـ "مولاهم"؛ ومعناه: الذي ليس بباطل؛ ولا مجازي؛ وقرأ الحسن بن أبي الحسن؛ والأعمش : "الحق"؛ بالنصب؛ وهو على المدح؛ ويصح على المصدر.

ألا له الحكم ؛ ابتداء كلام مضمنه التنبيه؛ وهز نفس السامع؛ و"الحكم"؛ تعريفه للجنس؛ أي: "جميع أنواع التصرفات في العباد"؛ و أسرع الحاسبين ؛ متوجه على أن الله - عز وجل - حسابه لعبيده صادر عن علمه بهم؛ فلا يحتاج في ذلك إلى إعداد؛ ولا تكلف؛ سبحانه؛ لا رب غيره؛ وقيل لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: كيف يحاسب الله تعالى العباد في حال واحدة؟ قال: "كما يرزقهم في حال واحدة في الدنيا".

التالي السابق


الخدمات العلمية