الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ( 46 ) )

يقول - تعالى ذكره - مبينا عن سوء العذاب الذي حل بهؤلاء الأشقياء من قوم فرعون ذلك الذي حاق بهم من سوء عذاب الله ( النار يعرضون عليها ) إنهم لما هلكوا وغرقهم الله ، جعلت أرواحهم في أجواف طير سود ، فهي تعرض على النار كل يوم مرتين ( غدوا وعشيا ) إلى أن تقوم الساعة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن أبي قيس ، عن الهذيل بن شرحبيل قال : أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار ، وذلك عرضها .

حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي قال : بلغني أن أرواح قوم فرعون في أجواف طير سود تعرض على النار غدوا وعشيا ، [ ص: 396 ] حتى تقوم الساعة .

حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال : ثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي قال : سمعت الأوزاعي وسأله رجل فقال : رحمك الله ، رأينا طيورا تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضا ، فوجا فوجا ، لا يعلم عددها إلا الله ، فإذا كان العشي رجع مثلها سودا ، قال : وفطنتم إلى ذلك ؟ قالوا : نعم ، قال : إن تلك الطيور في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا ، فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها ، وصارت سوداء ، فتنبت عليها من الليل رياض بيض ، وتتناثر السود ، ثم تغدو ، ويعرضون على النار غدوا وعشيا ، ثم ترجع إلى وكورها ، فذلك دأبها في الدنيا؛ فإذا كان يوم القيامة ، قال الله ( أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) قالوا : وكانوا يقولون : إنهم ست مئة ألف مقاتل .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : ثني حرملة ، عن سليمان بن حميد قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : ليس في الآخرة ليل ولا نصف نهار ، وإنما هو بكرة وعشي ، وذلك في القرآن في آل فرعون ( يعرضون عليها غدوا وعشيا ) وكذلك قال لأهل الجنة ( ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ) .

وقيل : عنى بذلك : أنهم يعرضون على منازلهم في النار تعذيبا لهم غدوا وعشيا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ) قال : يعرضون عليها صباحا ومساء ، يقال لهم : يا آل فرعون هذه منازلكم ، توبيخا ونقمة وصغارا لهم .

حدثنا محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، [ ص: 397 ] عن مجاهد قوله : ( غدوا وعشيا ) قال : ما كانت الدنيا .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر أن آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا . وجائز أن يكون ذلك العرض على النار على نحو ما ذكرناه عن الهذيل ومن قال مثل قوله ، وأن يكون كما قال قتادة ، ولا خبر يوجب الحجة بأن ذلك المعني به ، فلا في ذلك إلا ما دل عليه ظاهر القرآن ، وهم أنهم يعرضون على النار غدوا وعشيا ، وأصل الغدو والعشي مصادر جعلت أوقاتا .

وكان بعض نحويي البصرة يقول في ذلك : إنما هو مصدر ، كما تقول : أتيته ظلاما؛ جعله ظرفا وهو مصدر . قال : ولو قلت : موعدك غدوة ، أو موعدك ظلام ، فرفعته ، كما تقول : موعدك يوم الجمعة ، لم يحسن ، لأن هذه المصادر وما أشبهها من نحو سحر لا تجعل إلا ظرفا؛ قال : والظرف كله ليس بمتمكن؛ وقال نحويو الكوفة : لم يسمع في هذه الأوقات ، وإن كانت مصادر ، إلا التعريب : موعدك يوم موعدك صباح ورواح ، كما قال - جل ثناؤه - : ( غدوها شهر ورواحها شهر ) فرفع ، وذكروا أنهم سمعوا : إنما الطيلسان شهران قالوا : ولم يسمع في الأوقات النكرات إلا الرفع إلا قولهم : إنما سخاؤك أحيانا ، وقالوا : إنما جاز ذلك لأنه بمعنى : إنما سخاؤك الحين بعد الحين ، فلما كان تأويله الإضافة نصب .

وقوله : ( ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) اختلفت القراء في قراءة ذلك فقرأته عامة قراء أهل الحجاز والعراق سوى عاصم وأبي عمرو ( ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون ) بفتح الألف من أدخلوا في الوصل والقطع بمعنى الأمر بإدخالهم النار . وإذا قرئ ذلك كذلك ، كان الآل نصبا بوقوع أدخلوا عليه ، وقرأ ذلك عاصم وأبو عمرو : " ويوم تقوم الساعة أدخلوا " بوصل الألف وسقوطها في الوصل من اللفظ ، وبضمها إذا ابتدئ بعد الوقف على [ ص: 398 ] الساعة ، ومن قرأ ذلك كذلك ، كان الآل على قراءته نصبا بالنداء ، لأن معنى الكلام على قراءته : ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال إنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القراء ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . فمعنى الكلام إذن : ويوم تقوم الساعة يقال لآل فرعون : ادخلوا يا آل فرعون أشد العذاب ، فهذا على قراءة من وصل الألف من ادخلوا ولم يقطع ، ومعناه على القراءة الأخرى ، ويوم تقوم الساعة يقول الله لملائكته ( أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية