الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وكان هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا صالح قوما فنقض بعضهم عهده ، وصلحه ، وأقرهم الباقون ، ورضوا به ، غزا الجميع ، وجعلهم كلهم ناقضين ، كما فعل بقريظة ، والنضير ، وبني قينقاع ، وكما فعل في أهل مكة ، فهذه سنته في أهل العهد ، وعلى هذا ينبغي أن يجري الحكم في أهل الذمة كما صرح به الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم ، وخالفهم أصحاب الشافعي ، فخصوا نقض العهد بمن نقضه خاصة دون من رضي به وأقر عليه ، وفرقوا بينهما بأن عقد الذمة أقوى وآكد ، ولهذا كان موضوعا على التأبيد ، بخلاف عقد الهدنة والصلح .

والأولون يقولون : لا فرق بينهما ، وعقد الذمة لم يوضع للتأبيد ، بل بشرط استمرارهم ودوامهم على التزام ما فيه ، فهو كعقد الصلح الذي وضع للهدنة بشرط التزامهم أحكام ما وقع عليه العقد ، قالوا : والنبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت عقد الصلح والهدنة بينه وبين اليهود لما قدم المدينة ، بل أطلقه ما داموا كافين عنه ، غير محاربين له ، فكانت تلك ذمتهم ، غير أن الجزية لم يكن نزل فرضها بعد ، فلما نزل فرضها ، ازداد ذلك إلى الشروط المشترطة في العقد ، ولم يغير حكمه وصار [ ص: 124 ] مقتضاها التأبيد ، فإذا نقض بعضهم العهد ، وأقرهم الباقون ، ورضوا بذلك ، ولم يعلموا به المسلمين ، صاروا في ذلك كنقض أهل الصلح ، وأهل العهد والصلح سواء في هذا المعنى ، ولا فرق بينهما فيه ، وإن افترقا من وجه آخر يوضح هذا أن المقر الراضي الساكت إن كان باقيا على عهده وصلحه ، لم يجز قتاله ولا قتله في الموضعين ، وإن كان بذلك خارجا عن عهده وصلحه راجعا إلى حاله الأولى قبل العهد والصلح ، لم يفترق الحال بين عقد الهدنة وعقد الذمة في ذلك ، فكيف يكون عائدا إلى حاله في موضع دون موضع ، هذا أمر غير معقول . توضيحه : أن تجدد أخذ الجزية منه ، لا يوجب له أن يكون موفيا بعهده مع رضاه ، وممالأته ومواطأته لمن نقض ، وعدم الجزية يوجب له أن يكون ناقضا غادرا غير موف بعهده ، هذا بين الامتناع .

فالأقوال ثلاثة : النقض في الصورتين ، وهو الذي دلت عليه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكفار ، وعدم النقض في الصورتين ، وهو أبعد الأقوال عن السنة ، والتفريق بين الصورتين ، والأولى أصوبها ، وبالله التوفيق .

وبهذا القول أفتينا ولي الأمر لما أحرقت النصارى أموال المسلمين بالشام ودورهم ، وراموا إحراق جامعهم الأعظم حتى أحرقوا منارته ، وكاد - لولا دفع الله - أن يحترق كله ، وعلم بذلك من علم من النصارى ، وواطئوا عليه وأقروه ورضوا به ، ولم يعلموا ولي الأمر ، فاستفتى فيهم ولي الأمر من حضره من الفقهاء ، فأفتيناه بانتقاض عهد من فعل ذلك ، وأعان عليه بوجه من الوجوه ، أو رضي به ، وأقر عليه ، وأن حده القتل حتما ، لا تخيير للإمام فيه كالأسير بل صار القتل له حدا ، والإسلام لا يسقط القتل إذا كان حدا ممن هو تحت الذمة ، ملتزما لأحكام الله بخلاف الحربي إذا أسلم ، فإن الإسلام يعصم دمه وماله ، ولا يقتل بما فعله قبل الإسلام ، فهذا له حكم ، والذمي الناقض للعهد إذا أسلم له حكم آخر ، وهذا الذي ذكرناه هو الذي تقتضيه نصوص الإمام أحمد وأصوله ، ونص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ، وأفتى به في غير موضع .

التالي السابق


الخدمات العلمية