الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      واعتصموا بحبل الله أي القرآن ، وروي ذلك بسند صحيح عن ابن مسعود .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج غير واحد عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إني تارك فيكم خليفتين ؛ كتاب الله عز وجل ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض . وورد بمعنى ذلك أخبار كثيرة ، وقيل : المراد بحبل الله الطاعة والجماعة ، وروي ذلك عن ابن مسعود أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن ثابت بن قطنة المزني قال : سمعت ابن مسعود يخطب وهو يقول : أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة ، فإنهما حبل الله تعالى الذي أمر به ، وفي رواية عنه : حبل الله تعالى الجماعة ، وروي ذلك أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي العالية : أنه الإخلاص لله تعالى وحده ، وعن الحسن [ ص: 19 ] أنه طاعة الله عز وجل ، وعن ابن زيد أنه الإسلام ، وعن قتادة أنه عهد الله تعالى وأمره ، وكلها متقاربة .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الكلام استعارة تمثيلية بأن شبهت الحالة الحاصلة للمؤمنين من استظهارهم بأحد ما ذكر ووثوقهم بحمايته بالحالة الحاصلة من تمسك المتدلي من مكان رفيع بحبل وثيق مأمون الانقطاع من غير اعتبار مجاز في المفردات ، واستعير ما يستعمل في المشبه به من الألفاظ للمشبه ، وقد يكون في الكلام استعارتان مترادفتان بأن يستعار الحبل للعهد مثلا استعارة مصرحة أصلية ، والقرينة الإضافة ، ويستعار الاعتصام للوثوق بالعهد والتمسك به على طريق الاستعارة المصرحة التبعية ، والقرينة اقترانها بالاستعارة الثانية ، وقد يكون في ( اعتصموا ) مجاز مرسل تبعي بعلاقة الإطلاق والتقييد ، وقد يكون مجازا بمرتبتين لأجل إرسال المجاز ، وقد تكون الاستعارة في الحبل فقط ويكون الاعتصام باقيا على معناه ترشيحا لها على أتم وجه ، والقرينة قد تختلف بالتصرف ، فباعتبار قد تكون مانعة ، وباعتبار آخر قد لا تكون ، فلا يرد أن احتمال المجازية يتوقف على قرينة مانعة عن إرادة الموضع له ، فمع وجودها كيف يتأتى إرادة الحقيقة ليصح الأمران في ( اعتصموا ) وقد تكون الاستعارتان غير مستقلتين بأن تكون الاستعارة في الحبل مكنية ، وفي الاعتصام تخييلية ؛ لأن المكنية مستلزمة للتخييلية ، قاله الطيبي ، ولا يخفى أنه أبعد من العيوق .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكرنا في حواشينا على رسالة ابن عصام ما يرد على بعض هذه الوجوه مع الجواب عن ذلك فارجع إليه إن أردته . ( جميعا ) حال من فاعل ( اعتصموا ) كما هو الظاهر المتبادر أي مجتمعين عليه فيكون قوله تعالى : ولا تفرقوا تأكيدا بناء على أن المعنى : ولا تتفرقوا عن الحق الذي أمرتم بالاعتصام به ، وقيل : المعنى لا يقع بينكم شقاق وحروب كما هو مراد المذكرين لكم بأيام الجاهلية الماكرين بكم ، وقيل : المعنى لا تتفرقوا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وروي ذلك عن الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      واذكروا نعمة الله عليكم أي جنسها ، ومن ذلك الهداية والتوفيق للإسلام المؤدي إلى التآلف وزوال الأضغان ، ويحتمل أن يكون المراد بها ما بينه سبحانه بقوله : إذ كنتم أعداء أي في الجاهلية فألف بين قلوبكم بالإسلام ، و ( نعمة ) مصدر مضاف إلى الفاعل ، و ( عليكم ) إما متعلق به أو حال منه ، و ( إذ ) إما ظرف للنعمة أو للاستقرار في ( عليكم ) إذا جعلته حالا ، قيل : وأراد سبحانه بما ذكر ما كان بين الأوس والخزرج من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة إلى أن ألف سبحانه بينهم بالإسلام فزالت الأحقاد - قاله ابن إسحاق - وكان يوم بعاث آخر الحروب التي جرت بينهم ، وقد فصل ذلك في الكامل ، وقيل : أراد ما كان بين مشركي العرب من التنازع الطويل والقتال العريض ، ومنه حرب البسوس ، ونقل ذلك عن الحسن رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      فأصبحتم بنعمته إخوانا أي فصرتم بسبب نعمته التي هي ذلك التأليف متحابين ، فأصبح ناقصة ، و ( إخوانا ) خبره ، وقيل : ( أصبحتم ) أي دخلتم في الصباح ، فالباء حينئذ متعلقة بمحذوف وقع حالا من الفاعل ، وكذا إخوانا أي فأصبحتم متلبسين بنعمته حال كونكم إخوانا ، والإخوان جمع أخ وأكثر ما يجمع أخو الصداقة على ذلك على الصحيح ، وفي الإتقان الأخ في النسب جمعه إخوة وفي الصداقة إخوان ، قاله ابن فارس - وخالفه غيره - وأورد في الصداقة : إنما المؤمنون إخوة وفي النسب : ( أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بيوت إخوانكم ) .

                                                                                                                                                                                                                                      وكنتم على شفا حفرة من النار [ ص: 20 ] أي وكنتم على طرف حفرة من جهنم ، إذ لم يكن بينكم وبينها إلا الموت ، وتفسير الشفا بالطرف مأثور عن السدي في الآية ووارد عن العرب ، ويثنى على شفوان ، ويجمع على أشفاء ، ويضاف إلى الأعلى كـ ( شفا جرف هار ) وإلى الأسفل قيل : كما هنا وكون المراد من النار ما ذكرنا هو الظاهر وحملها على نار الحرب بعيد .

                                                                                                                                                                                                                                      فأنقذكم منها أي بمحمد صلى الله عليه وسلم - قاله ابن عباس - والضمير المجرور عائد إما على النار أو على ( حفرة ) أو على ( شفا ) لأنه بمعنى الشفة ، أو لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه كما في قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم



                                                                                                                                                                                                                                      فإن المضاف يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان بعضا منه أو فعلا له أو صفة كما صرحوا به وما نحن فيه من الأول ، ومن أطلق لزمه جواز قامت غلام هند ، واختار الزمخشري الاحتمال الأخير ، وقال ابن المنير : وعود الضمير إلى الحفرة أتم لأنها التي يمتن بالإنقاذ منها حقيقة ، وأما الامتنان بالإنقاذ من الشفا قلما يستلزمه الكون على الشفا غالبا من الهوى إلى الحفرة فيكون الإنقاذ من الشفا إنقاذا من الحفرة التي يتوقع الهوى فيها ، فإضافة المنة إلى الإنقاذ من الحفرة أبلغ وأوقع مع أن اكتساب التأنيث من المضاف إليه قد عده أبو علي في التعاليق من ضرورة الشعر خلاف رأيه في الإيضاح ، وما حمل الزمخشري على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالإنقاذ من الحفرة ، وقد علم أنهم كانوا صائرين إليها لولا الإنقاذ الرباني فبولغ في الامتنان بذلك ، ألا ترى إلى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : " الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه " ، وإلى قوله تعالى : أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم فانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سببا مؤديا إلى انهياره في نار جهنم مع تأكيد ذلك بقوله سبحانه : ( هار ) انتهى ، ومنه يعلم ما في قول أبي حيان من أنه لا يحسن عوده إلا إلى الشفا ؛ لأن كينونتهم عليه هو أحد جزأي الإسناد ، فالضمير لا يعود إلا إليه لا على الحفرة ؛ لأنها غير محدث عنها ، ولا على النار لأنه إنما جيء بها لتخصيص الحفرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأيضا فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن النار ، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا فعوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ، نعم ما ذكره من أن عوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ظاهر بناء على أن الأصل أن يعود الضمير على المضاف دون المضاف إليه إذا صلح لكل منهما ولو بتأويل ، إلا أنه قد يترك ذلك فيعود على المضاف إليه إما مطلقا - كما هو قول ابن المنير - أو بشرط كونه بعضه أو كبعضه كقول جرير .


                                                                                                                                                                                                                                      أرى مر السنين أخذن مني



                                                                                                                                                                                                                                      فإن مر السنين من جنسها ، وإليه ذهب الواحدي ، والشرط موجود فيما نحن فيه . ( كذلك ) أي مثل ذلك التبيين الواضح يبين الله لكم آياته أي دلائله فيما أمركم به ونهاكم عنه لعلكم تهتدون (103) أي لكي تدوموا على الهدى ، وازديادكم فيه كما يشعر به كون الخطاب للمؤمنين ، أو صيغة المضارع من الافتعال .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية