الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان أن الإجماع انعقد على حدوث العالم

وعلى إثبات صفة العلو لله تعالى ومباينته لمخلوقاته

والأساطين قبله كانوا يقولون بحدوثه، وإثبات الصانع، ومباينته للعالم، وأنه فوق العالم، وفوق السماوات بذاته، كما حكاه أبو الوليد بن زيد في كتابه «مناهج الأدلة»، وهو أعلم الناس -في زمانه- بمقالاتهم، فقال فيه القول في الجهة.

وأما هذه الصفة، فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشاعرة؛ كأبي المعالي، ومن اقتدى بقوله، إلى أن قال:

والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماوات نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك.

[ ص: 432 ] ثم ذكر تقرير ذلك بالمعقول، وبين بطلان الشبهة التي لأجلها نفتها الجهمية ومن وافقهم، إلى أن قال: فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأن إبطاله إبطال الشرائع.

ولم يزل أساطينهم معظمين للرسل والشرائع، معترفين بأن ما جاؤوا به طور آخر، وراء طور العقل.

وكانوا لا يتكلمون في الإلهيات، ويسلمون باب الكلام فيها إلى الرسل، ويقولون: علومنا إنما هي الربانيات، والطبيعيات، وتوابعها.

وحكى أرباب المقالات: أن أول من عرف منه القول بقدم العالم: «أرسطو»، وكان مشركا يعبد الأصنام، وله في الإلهيات كلام كله خطأ، قد رده عليه طوائف المسلمين، حتى الجهمية، والمعتزلة، والقدرية، والرافضة، وفلاسفة الإسلام.

وأنكر أن يعلم الله شيئا من الموجودات، وقال: لو علم شيئا لكمل بمعلوماته، ولم يكن كاملا في نفسه، وكان يلحقه التعب من تصور المعلومات.

وتبعه من تستر باتباع الرسل، وهو منحل من كل ما جاؤوا به، ويسمونه: المعلم الأول؛ لأنه أول من وضع لهم التعاليم المنطقية.

وزعم «أرسطو» وأتباعه: أن المنطق ميزان المعاني، كما أن العروض ميزان الشعر.

وقد بين نظار الإسلام فساد هذا الميزان، وعوجه، وتخبيطه للأذهان، وصنفوا في رده وتهافته، وآخر من صنف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، ألف في رده وإبطاله كتابين، بين فيهما تناقضه وتهافته، وفساد كثير من أوضاعه، ورأيت فيه تصنيفا لأبي سعيد السيرافي.

والمقصود: أن الملاحدة درجت على أثر هذا المعلم، حتى انتهت النوبة إلى معلمهم أبي نصر الفارابي.

[ ص: 433 ] فوضع لهم التعاليم الصوتية، كما أن المعلم الأول وضع لهم التعاليم الحرفية، ثم وسع الفارابي الكلام في صناعة المنطق، وشرح فلسفة «أرسطو» وهذبها.

والله عند هؤلاء -كما قرره أفضل متأخريهم وقدوتهم الذي يقدمونه على الرسل، أبو علي ابن سينا- هو الموجود المطلق، بشرط الإطلاق، وليس له صفة ثبوتية تقوم به، ولا يفعل شيئا باختياره، ولا يعلم شيئا من الموجودات أصلا، ولا يعلم عدد الأفلاك، ولا شيئا من المغيبات، ولا كلام له يقوم به.

ومعلوم أن هذا إنما هو خيال مقدر في الذهن، لا حقيقة له، وليس هو الرب الذي دعت إليه الرسل، وعرفه الأمم، بل الرب الذي دعت إليه الملاحدة، وجردته عن الماهية، وعن كل صفة ثبوتية، وكل فعل اختياري، وأنه لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا متصلا به، ولا مباينا له، ولا فوقه، ولا تحته، ولا أمامه، ولا خلفه، ولا عن يمينه، ولا عن شماله.

وقول هؤلاء الملاحدة أصلح من قول معلمهم «أرسطو»؛ فإن هؤلاء أثبتوا واجبا وممكنا، وهو معلول له، وصادر عنه صدور المعلول عن علته.

وأما «أرسطو» فلم يثبته إلا من جهة كونه مبدأ عقليا للكثرة، وعلة غائية لحركة الفلك فقط، وصرح بأنه لا يفعل شيئا، ولا يفعل باختياره، وهذا الذي يوجد في كتب المتأخرين من حكاية مذهبه من وضع «ابن سينا»؛ فإنه قربه من دين الإسلام بجهده، وغاية ما أمكنه أن قربه من قول غلاة الجهمية.

وأما الإيمان بالملائكة، فهم لا يعرفون الملائكة، ولا يؤمنون بهم.

وإنما الملك -عندهم- ما يتصوره النبي من أشكال نورانية هي العقول عندهم، وهي المجردات، ليست داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوق السماوات، ولا تحتها، ولا هي أشخاص تتحرك، ولا تصعد، ولا تنزل [ ص: 434 ] ولا تتكلم، ولا تكتب أعمال العباد، ولا إحساس لها، ولا حركة.

وربما يقرب بعضهم إلى الإسلام، فقال: الملائكة هي القوى الخيرة الفاضلة في العبد، والشياطين هي القوى الشرية الردية.

وكذلك الكتب، ليس لله -عندهم- كلام أنزله بواسطة الملك، فإنه ما قال شيئا، ولا يقول.

ومن يقرب منهم إلى المسلمين يقول: الكتب المنزلة فيض فاض من العقل الفعال على النفس المستعدة الفاضلة الزكية.

فتصورت تلك المعاني، وسلكت في نفسه، بحيث توهمها أصواتا، وخطابا، وربما قوي الوهم حتى يراها أشكالا نورانية، تخاطبه، وربما قوي الوهم حتى يخيلها لبعض الحاضرين، فيرونها، ويسمعون خطابها، ولا حقيقة لشيء من ذلك في الخارج.

وللنبوة -عندهم- ثلاث خصائص، من استكملها، فهو نبي.

إحداها: قوة الحدس؛ بحيث يدرك الحد الأوسط بسرعة.

والثانية: قوة التخيل، بحيث يتخيل في نفسه أشكالا نورانية تخاطبه، ويسمع الخطاب منها، ويحيلها إلى غيره.

والثالثة: قوة التأثير بالتصرف في هيولى العالم، وهذا يكون عندهم بتجرد النفس من العلائق، واتصالها بالمفارقات من العقول، والنفوس المجردة، وهذه الخصائص تحصل بالاكتساب.

ولهذا طلب النبوة من تصوف على مذهب هؤلاء؛ كابن سبعين، وابن هود، وأضرابهما.

والنبوة عند -هؤلاء- صنعة، كالسياسة، وأكثرهم لا يرضى بها، ويقول: الفلسفة نبوة الخاصة، والنبوة فلسفة العامة.

وأما الإيمان باليوم الآخر، فهم لا يقرون بانفطار السماوات، وانتثار [ ص: 435 ] الكواكب، وقيامة الأبدان، ولا يقرون بأن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأوجد هذا العالم بعد علمه، فلا مبدأ عندهم ولا معاد.

التالي السابق


الخدمات العلمية