الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) .

أصبح : من الأفعال الناقصة لاتصاف الموصوف بالصفة وقت الصباح . وقد تأتي بمعنى صار وهي ناقصة أيضا ، وتأتي أيضا لازمة تقول : أصبحت أي دخلت في الصباح . وتقول : أصبح زيد ، أي أقام في الصباح ، ومنه : إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنه مصبح ، أي مقيم في الصباح .

شفا الشيء : طرفه وحرفه ، وهو من ذوات الواو ، وتثنيته : شفوان ، وهو حرف كل جرف له مهوى ، كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار . ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى نحو : شفا جرف . وإلى الأسفل نحو : شفا حفرة . ويقال : أشفى على كذا أي أشرف . ومنه أشفى المريض على الموت . قال يعقوب : يقال للرجل عند موته وللقمر عند محاقه وللشمس عند غروبها : ما بقي منه أو منها إلا شفا : أي قليل .

الحفرة : معروفة وهي واحدة الحفر ، فعلة بمعنى مفعولة ، كغرفة من الماء . أنقذ : خلص .

الابيضاض والاسوداد معروفان ، ويقال : بيض فهو أبيض . وسود : فهو أسود ، ويقال : هما أصل الألوان . ذاق الشيء : استطعمه ، وأصله بالفم ، ثم استعير لكل ما يحس ويدرك على وجه التشبيه بالذي يعرف عند الطعم . تقول العرب : قد ذقت من إكرام فلان ما يرغبني في قصده . ويقولون : ذق الفرق واعرف ما عنده . وقال تميم بن مقبل :


أو كاهتزاز رديني تذاوقه أيدي التجار فزادوا متنه لينا



وقال آخر :


وإن الله ذاق حلوم قيس     فلما راء خفتها قلاها



يعنون بالذوق العلم ، إما بالحاسة ، وإما بغيرها . ثقفت الرجل : غلبته وظفرت به .

( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ) لما حذرهم تعالى من إضلال من يريد إضلالهم ، أمرهم بمجامع الطاعات ، فرهبهم [ ص: 17 ] أولا بقوله : اتقوا الله ، إذ التقوى إشارة إلى التخويف من عذاب الله ، ثم جعلها سببا للأمر بالاعتصام بدين الله ، ثم أردف الرهبة بالرغبة ، وهي قوله : ( واذكروا نعمة الله عليكم ) وأعقب الأمر بالتقوى والأمر بالاعتصام بنهي آخر هو من تمام الاعتصام . قال ابن مسعود ، والربيع ، وقتادة ، والحسن : حق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر . وروي مرفوعا . وقيل : حق تقاته اتقاء جميع معاصيه . وقال قتادة ، والسدي ، وابن زيد ، والربيع : هي منسوخة بقوله : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) أمروا أولا بغاية التقوى حتى لا يقع إخلال بشيء ثم نسخ . وقال ابن عباس ، وطاوس : هي محكمة . ( فاتقوا الله ما استطعتم ) بيان لقوله : اتقوا الله حق تقاته . وقيل : هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه . وقيل : لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه . وقال ابن عباس : المعنى جاهدوا في الله حق جهاده . وقال الماتريدي : وفي حرف حفصة : " اعبدوا الله حق عبادته " . وتقاة هنا مصدر ، وتقدم الكلام عليه في ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) .

قال ابن عطية : ويصح أن يكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل وإن كان لم يتصرف منه ، فيكون : كرماة ورام ، أو يكون جمع تقي ، إذ فعيل وفاعل بمنزلة . والمعنى على هذا : اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به ؛ ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى . انتهى كلامه . وهذا المعنى ينبو عنه هذا اللفظ ؛ إذ الظاهر أن قوله : " حق تقاته " من باب إضافة الصفة إلى موصوفها ، كما تقول : ضربت زيدا شديد الضرب ، أي الضرب الشديد . فكذلك هذا ، أي اتقوا الله الاتقاء الحق ، أي الواجب الثابت . أما إذا جعلت التقاة جمعا فإن التركيب يصير مثل : اضرب زيدا حق ضرابه ، فلا يدل هذا التركيب على معنى : اضرب زيدا كما يحق أن يكون ضرابه . بل لو صرح بهذا التركيب لاحتيج في فهم معناه إلى تقدير أشياء يصح بها المعنى ، والتقدير : اضرب زيدا ضربا حقا كما يحق أن يكون ضرب ضرابه . ولا حاجة تدعو إلى تحميل اللفظ غير ظاهره ، وتكلف تقادير يصح بها معنى لا يدل عليه ظاهر اللفظ .

( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ظاهره النهي عن أن يموتوا إلا وهم متلبسون بالإسلام . والمعنى : دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه . ونظيره ما حكى سيبويه من قولهم : لا أرينك هاهنا ، وإنما المراد لا تكن هنا فتكون رؤيتي لك . وقد تقدم لنا الكلام على هذا المعنى مستوفى في سورة البقرة في قوله : ( إن الله اصطفى لكم الدين ) الآية . والجملة من قوله : وأنتم مسلمون حالية ، والاستثناء مفرع من الأحوال . التقدير : ولا تموتن على حال من الأحوال إلا على حالة الإسلام . ومجيئها اسمية أبلغ لتكرر الضمير ، وللمواجهة فيها بالخطاب . وزعم بعضهم أن الأظهر في الجملة أن يكون الحال حاصلة قبل ، ومستصحبة . وأما لو قيل : مسلمين ، لدل على الاقتران بالموت لا متقدما ولا متأخرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية