الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4688 (17) باب تحريم السباب والغيبة ومن تجوز غيبته

                                                                                              [ 2495 ] عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم" .

                                                                                              رواه أحمد ( 2 \ 235 )، ومسلم (2587)، وأبو داود (4894)، والترمذي (1981).

                                                                                              [ ص: 566 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 566 ] (17) ومن باب : تحريم السباب والغيبة

                                                                                              (قوله : " المستبان ما قالا ، فعلى الأول ما لم يعتد المظلوم ") المستبان : تثنية مستب من السب ، وهو الشتم والذم ، وهما مرفوعان بالابتداء ، و (ما) موصولة ، وهي في موضع رفع بالابتداء أيضا ، وصلتها : قالا ، والعائد محذوف ، تقديره : قالاه ، و (على الأول) خبر ما ، ودخلت الفاء على الخبر لما تضمنه الاسم الموصول من معنى الشرط ، نحو قوله تعالى : وما بكم من نعمة فمن الله [النحل: 53] وما وخبرها : خبر المبتدأ الأول الذي هو المستبان . ومعنى الكلام : أن المبتدئ بالسب هو المختص بإثم السب ، لأنه ظالم به ؛ إذ هو مبتدئ من غير سب ولا استحقاق ، والثاني منتصر فلا إثم عليه ، ولا جناح ، لقوله تعالى : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل [الشورى: 41] لكن السب المنتصر به - وإن كان [ ص: 567 ] مباحا للمنتصر - فعليه إثم من حيث هو سب ، لكنه عائد إلى الجاني الأول ، لأنه هو الذي أحوج المنتصر إليه وتسبب فيه ، فيرجع إثمه عليه ، ويسلم المنتصر من الإثم ، لأن الشرع قد رفع عنه الإثم والمؤاخذة ، لكن ما لم يكن من المنتصر عدوان إلى ما لا يجوز له ، كما قال : " ما لم يعتد المظلوم " أي : ما لم يجاوز ما سب به إلى غيره ، إما بزيادة سب آخر أو بتكرار مثل ذلك السب ، وذلك أن المباح في الانتصار : أن يرد مثل ما قال الجاني ، أو يقاربه ، لأنه قصاص ، فلو قال له : يا كلب - مثلا - فالانتصار أن يرد عليه بقوله : بل هو الكلب ، فلو كرر هذا اللفظ مرتين أو ثلاثا لكان متعديا بالزائد على الواحدة ، فله الأولى ، وعليه إثم الثانية ، وكذلك لو رد عليه بأفحش من الأولى ، فيقول له : خنزير - مثلا - كان كل واحد منهما مأثوما ، لأن كلا منهما جاز على الآخر ، وهذا كله مقتضى قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [البقرة: 194] و قوله : وجزاء سيئة سيئة مثلها [الشورى: 40]، وكل ما ذكرناه من جواز الانتصار إنما هو فيما إذا لم يكن القول كذبا أو بهتانا ، فلا يجوز أن يتكلم بذلك لا ابتداء ولا قصاصا ، وكذلك لو كان قذفا ، فلو رده كان كل واحد منهما قاذفا للآخر ، وكذلك لو سب المبتدئ أبا المسبوب أو جده ، لم يجز له أن يرد ذلك ، لأنه سب لمن لم يجن عليه ، فيكون الرد عدوانا لا قصاصا . قال بعض علمائنا : إنما يجوز الانتصار فيما إذا كان السب مما يجوز سب المرء به عند التأديب كالأحمق ، والجاهل ، والظالم ، لأن أحدا لا ينفك عن بعض هذه الصفات إلا الأنبياء والأولياء ، فهذا إذا كافأه بسبه فلا حرج عليه ولا إثم ، وبقي الإثم على الأول بابتدائه وتعرضه لذلك .

                                                                                              تنبيه : ظاهر قوله تعالى : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل [الشورى: 41] أن الانتصار مباح ، وعلى ذلك يدل الحديث المذكور ، لكن قوله تعالى : والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون [الشورى: 39] مدح من الله تعالى للمنتصر ، والمباح لا يمدح عليه، فاختلف العلماء في ذلك ، فقال السدي : إنما [ ص: 568 ] مدح الله من انتصر ممن بغي عليه من غير زيادة على مقدار ما فعل به ، يعني : أنه إنما مدح من حيث إنه اتقى الله في انتصاره ، إذا أوقعه على الوجه المشروع ، ولم يفعل ما كانت الجاهلية تفعل من الزيادة على الجناية . وقال غيره : إنما مدح الله من انتصر من الظالم الباغي المعلن بظلمه الذي يعم ضرره ، فالانتقام منه أفضل ، والانتصار عليه أولى . قال معناه إبراهيم النخعي ، ولا خفاء في أن العفو عن الجناة وإسقاط المطالبة عنهم بالحقوق ، مندوب إليه ، مرغب فيه على الجملة ، لقوله تعالى : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [الشورى: 43] ولقوله : فمن عفا وأصلح فأجره على الله [الشورى: 40] وقوله : وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم [النور: 22] وقوله : وأن تعفوا أقرب للتقوى [البقرة: 237] ولقوله صلى الله عليه وسلم : " ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا " ، وقوله : " تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك " ونحوه كثير ، ومع ذلك فاختلف العلماء في المحاللة من الحقوق ، فقال سعيد بن المسيب : لا أحلل أحدا . وظاهره : أنه كان لا يجيز أن يعفو عن حق وجب له ، ولا يسقطه ، ولم يفرق بين الظالم ولا غيره ، وهذا هو الذي فهمه مالك عنه .

                                                                                              وذهب غيره إلى أنه تجوز المحاللة من جميع الحقوق وإسقاطها ، وإليه ذهب محمد بن سيرين ، والقاسم بن محمد ، كان يحلل من ظلمه ، ويكره لنفسه الخصوم . وفرق آخرون بين الظالم ، فلم يحللوه ، وبين غيره فحللوه ، وإليه ذهب إبراهيم النخعي ، وهو ظاهر قول مالك ، وقد سئل فقيل له : أرأيت الرجل يموت ، ولك عليه دين ، ولا وفاء له به ؟ قال : أفضل عندي أن أحلله ، وأما الرجل يظلم الرجل فلا أرى ذلك . قال الله عز وجل : إنما السبيل على الذين يظلمون الناس [الشورى: 42] فظاهر هذا : أن [ ص: 569 ] الظالم لا يجوز أن يحلل ، ولم يفرق بين الحقوق ، فيكون مذهبه كمذهب النخعي المتقدم ، غير أنه قد روي قول مالك هذا بلفظ آخر ، فقال : أما الرجل يغتاب الرجل ، وينتقصه ، فلا أرى ذلك ، ففهم بعض أصحابنا من هذا : أن ترك المحاللة إنما منعه في الأعراض خاصة ، وأما في سائر الحقوق فيجوز ، وسبب هذا الخلاف : هل تلك الأدلة مبقاة على ظواهرها من التعميم ، أو هي مخصصة فيخرج منها الظالم؟ ، لأن تحليله من المظالم يجرئه على الإكثار منها ، وهو ممنوع بالإجماع ، ثم ذلك عون له على الإثم والعدوان ، وقد قال تعالى : ولا تعاونوا على الإثم والعدوان [المائدة: 2] وأما الفرق بين الأعراض وغيرها فمبالغة في سد ذريعة الأعراض ليسارتها وتساهل الناس في أمرها ، فاقتضى ذلك المبالغة في الردع عنها ، فإذا علم الذي يريد أن يغتاب مسلما أن الغيبة وأعراض المسلمين لا يعفى عنها ، ولا يخرج منها ، امتنع من الوقوع فيها .

                                                                                              قلت : ويرد على هذه التخصيصات سؤالات يطول الكلام بإيرادها والانفصال عنها ، والتمسك بالعموم هو الأصل المعلوم ، لاسيما مع قوله صلى الله عليه وسلم : " أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم ، كان إذا أصبح يقول : اللهم إني تصدقت بعرضي على عبادك " ومع الأصل الكلي في حقوق بني آدم من جواز تصرفهم فيها بالإعطاء والمنع ، والأخذ والإسقاط ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              تفريع : القائلون بجواز التحلل وإسقاط الحقوق اختلفوا : هل تسقط عن الظالم مطالبة الآدمي فقط ، ولا تسقط عنه مطالبة الله عز وجل ؟ أو يسقط عنه الجميع ؟ لأهل العلم فيه قولان .




                                                                                              الخدمات العلمية