الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله .

يتنزل هذا منزلة التعليل لأمرهم بالدعوة إلى الخير وما بعده فإن قوله تأمرون بالمعروف حال من ضمير كنتم ، فهو مؤذن بتعليل كونهم خير أمة فيترتب عليه أن ما كان فيه خيريتهم يجدر أن يفرض عليهم ، إن لم يكن مفروضا من قبل ، وأن يؤكد عليهم فرضه ، إن كان قد فرض عليهم من قبل .

والخطاب في قوله كنتم إما لأصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونقل ذلك عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس . قال عمر : هذه لأولنا ولا تكون لآخرنا . وإضافة خير إلى أمة من إضافة الصفة إلى الموصوف : أي كنتم أمة خير أمة أخرجت للناس ، فالمراد بالأمة الجماعة ، وأهل العصر النبوي ، مثل القرن ، وهو إطلاق مشهور ومنه قوله تعالى وادكر بعد أمة أي بعد مدة طويلة كمدة عصر كامل . ولا شك أن الصحابة كانوا أفضل القرون التي ظهرت في العالم ، لأن رسولهم أفضل الرسل ، ولأن الهدي الذي كانوا عليه لا يماثله هدي أصحاب الرسل الذين مضوا ، فإن أخذت الأمة باعتبار الرسول فيها فالصحابة أفضل أمة من الأمم مع رسولها ، قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - : خير القرون قرني . والفضل ثابت للمجموع على المجموع ، وإن أخذت الأمة من عدا الرسول ، فكذلك الصحابة أفضل الأمم التي مضت بدون رسلها ، وهذا تفضيل للهدى الذي اهتدوا به ، وهو هدى رسولهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وشريعته .

وإما أن يكون الخطاب بضمير كنتم للمسلمين كلهم في كل جيل ظهروا [ ص: 49 ] فيه ، ومعنى تفضيلهم بالأمر بالمعروف مع كونه من فروض الكفايات لا تقوم به جميع أفراد الأمة أنه لا يخلو مسلم من القيام بما يستطيع القيام به من هذا الأمر ، على حسب مبلغ العلم ومنتهى القدرة ، فمن التغيير على الأهل والولد إلى التغيير على جميع أهل البلد ، أو لأن وجود طوائف القائمين بهذا الأمر في مجموع الأمة أوجب فضيلة لجميع الأمة ، لكون هذه الطوائف منها كما كانت القبيلة تفتخر بمحامد طوائفها ، وفي هذا ضمان من الله تعالى بأن ذلك لا ينقطع من المسلمين إن شاء الله تعالى .

وفعل ( كان ) يدل على وجود ما يسند إليه في زمن مضى ، دون دلالة على استمرار ، ولا على انقطاع ، قال تعالى : وكان الله غفورا رحيما أي وما زال فمعنى كنتم خير أمة وجدتم على حالة الأخيرية على جميع الأمم ، أي حصلت لكم هذه الأخيرية بحصول أسبابها ووسائلها ، ولأنهم اتصفوا بالإيمان ، والدعوة للإسلام ، وإقامته على وجهه ، والذب عن النقصان والإضاعة لتحقق أنهم لما جعل ذلك من واجبهم ، وقد قام كل بما استطاع ، فقد تحقق منهم القيام به ، أو قد ظهر منهم العزم على امتثاله ، كلما سنح سانح يقتضيه ، فقد تحقق أنهم خير أمة على الإجمال فأخبر عنهم بذلك . هذا إذا بينا على كون الأمر في قوله آنفا ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وما بعده من النهي في قوله ولا تكونوا كالذين تفرقوا الآية ، لم يكن حاصلا عندهم من قبل .

ويجوز أن يكون المعنى : كنتم خير أمة موصوفين بتلك الصفات فيما مضى تفعلونها إما من تلقاء أنفسكم حرصا على إقامة الدين واستحسانا وتوفيقا من الله في مصادفتكم لمرضاته ومراده ، وإما بوجوب سابق حاصل من آيات أخرى مثل قوله وتواصوا بالحق وحينئذ فلما أمرهم بذلك على سبيل الجزم ، أثنى عليهم بأنهم لم يكونوا تاركيه من قبل ، وهذا إذا بنينا على أن الأمر في قوله ولتكن منكم أمة تأكيد لما كانوا يفعلونه ، وإعلام بأنه واجب ، أو بتأكيد وجوبه على الوجوه التي قدمتها عند قوله ولتكن منكم أمة [ ص: 50 ] ومن الحيرة التجاء جمع من المفسرين إلى جعل الإخبار عن المخاطبين بكونهم فيما مضى من الزمان خير أمة بمعنى كونهم كذلك في علم الله تعالى وقدره أو ثبوت هذا الكون في اللوح المحفوظ أو جعل ، كان بمعنى صار .

والمراد بأمة عموم الأمم كلها على ما هو المعروف في إضافة أفعل التفضيل إلى النكرة أن تكون للجنس فتفيد الاستغراق .

وقوله أخرجت للناس الإخراج مجاز في الإيجاد والإظهار كقوله تعالى فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار أي أظهر بصوغه عجلا جسدا .

والمعنى : كنتم خير الأمم التي وجدت في عالم الدنيا . وفاعل أخرجت معلوم وهو الله موجد الأمم ، والسائق إليها ما به تفاضلها . والمراد بالناس جميع البشر من أول الخليقة .

وجملة تأمرون بالمعروف حال في معنى التعليل إذ مدلولها ليس من الكيفيات المحسوسة حتى تحكي الخيرية في حال مقارنتها لها ، بل هي من الأعمال النفسية الصالحة للتعليل لا للتوصيف ، ويجوز أن يكون استئنافا لبيان كونهم خير أمة . ويجوز كونها خبرا ثانيا لكان ، وهذا ضعيف لأنه يفيت قصد التعليل . والمعروف والمنكر تقدم بيانهما قريبا .

وإنما قدم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر على قوله وتؤمنون بالله لأنهما الأهم في هذا المقام المسوق للتنويه بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحاصلة من قوله تعالى ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر والاهتمام الذي هو سبب التقديم يختلف باختلاف مقامات الكلام ولا ينظر فيه إلى ما في نفس الأمر لأن إيمانهم ثابت محقق من قبل .

وإنما ذكر الإيمان بالله في عداد الأحوال التي استحقوا بها التفضيل على الأمم ، لأن لكل من تلك الأحوال الموجبة للأفضلية أثرا في التفضيل على [ ص: 51 ] بعض الفرق ، فالإيمان قصد به التفضيل على المشركين الذين كانوا يفتخرون بأنهم أهل حرم الله وسدنة بيته وقد رد الله ذلك صريحا في قوله أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله وذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قصد به التفضيل على أهل الكتاب ، الذين أضاعوا ذلك بينهم ، وقد قال تعالى فيهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه .

فإن قلت : إذا كان وجه التفضيل على الأمم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله ، فقد شاركنا في هذه الفضيلة بعض الجماعات من صالحي الأمم الذين قبلنا . لأنهم آمنوا بالله على حسب شرائعهم ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، لتعذر أن يترك الأمم الأمر بالمعروف لأن الغيرة على الدين أمر مرتكز في نفوس الصادقين من أتباعه . قلت : لم يثبت أن صالحي الأمم كانوا يلتزمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إما لأنه لم يكن واجبا عليهم ، أو لأنهم كانوا يتوسعون في حل التقية ، وهذا هارون في زمن موسى عبدت بنو إسرائيل العجل بمرأى منه ومسمع فلم يغير عليهم ، وقد حكى الله محاورة موسى معه بقوله قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي وأما قوله تعالى من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر الآية فتلك فئة قليلة من أهل الكتاب هم الذين دخلوا في الإسلام مثل عبد الله بن سلام ، وقد كانوا فئة قليلة بين قومهم فلم يكونوا جمهرة الأمة .

وقد شاع عند العلماء الاستدلال بهذه الآية على حجية الإجماع وعصمته من الخطأ بناء على أن التعريف في المعروف والمنكر للاستغراق ، فإذا أجمعت الأمة على حكم ، لم يجز أن يكون ما أجمعوا عليه منكرا ، وتعين أن يكون معروفا ، لأن الطائفة المأمورة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في [ ص: 52 ] ضمنهم ، ولا يجوز سكوتها عن منكر يقع ، ولا عن معروف يترك ، وهذا الاستدلال إن كان على حجية الإجماع بمعنى الشرع المتواتر المعلوم من الدين بالضرورة فهو استدلال صحيح لأن المعروف والمنكر في هذا النوع بديهي ضروري ، وإن كان استدلالا على حجية الإجماعات المنعقدة عن اجتهاد ، وهو الذي يقصده المستدلون بالآية ، فاستدلالهم بها عليه سفسطائي لأن المنكر لا يعتبر منكرا إلا بعد إثبات حكمه شرعا ، وطريق إثبات حكمه الإجماع ، فلو أجمعوا على منكر عند الله خطأ منهم لما كان منكرا حتى ينهى عنه طائفة منهم لأن اجتهادهم هو غاية وسعهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية