الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور )

                                                                                                                                                                                                                                            ( وهم يصطرخون فيها ) أي لا يخفف ، وإن اصطرخوا واضطربوا لا يخفف الله من عنده إنعاما إلى أن يطلبوه ، بل يطلبون ولا يجدون ، والاصطراخ من الصراخ ، والصراخ صوت المعذب .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله تعالى : ( ربنا أخرجنا ) أي صراخهم بهذا ، أي يقولون : ( ربنا أخرجنا ) لأن صراخهم كلام ، وفيه إشارة إلى أن إيلامهم تعذيب لا تأديب ، وذلك لأن المؤدب إذا قال لمؤدبه : لا أرجع إلى ما فعلت وبئسما [ ص: 27 ] فعلت يتركه ، وأما المعذب فلا ، وترتيبه حسن ؛ وذلك لأنه لما بين أنه لا يخفف عنهم بالكلية ، ولا يعفو عنهم ، بين أنه لا يقبل منهم وعدا ؛ وهذا لأن المحبوس يصبر لعله يخرج من غير سؤال ، فإذا طال لبثه تطلب الإخراج من غير قطيعة على نفسه ، فإن لم يفده يقطع على نفسه قطيعة ويقول : أخرجني أفعل كذا وكذا .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الله تعالى قد بين أن من يكون في الدنيا ضالا ، فهو في الآخرة ضال ، كما قال تعالى : ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى ) ( الإسراء : 72 ) ثم إنهم لم يعلموا أن العود إلى الدنيا بعيد محال بحكم الإخبار .

                                                                                                                                                                                                                                            وعلى هذا قالوا : ( نعمل صالحا ) جازمين من غير استعانة بالله ولا مثنوية فيه ، ولم يقولوا : إن الأمر بيد الله ، فقال الله لهم : إذا كان اعتمادكم على أنفسكم ، فقد عمرناكم مقدارا يمكن التذكر فيه والإتيان بالإيمان والإقبال على الأعمال .

                                                                                                                                                                                                                                            وقولهم : ( غير الذي كنا نعمل ) إشارة إلى ظهور فساد عملهم لهم ، وكأن الله تعالى كما لم يهدهم في الدنيا لم يهدهم في الآخرة ، فما قالوا : ربنا زدت للمحسنين حسنات بفضلك لا بعملهم ، ونحن أحوج إلى تخفيف العذاب منهم إلى تضعيف الثواب ، فافعل بنا ما أنت أهله نظرا إلى فضلك ، ولا تفعل بنا ما نحن أهله نظرا إلى عدلك ، وانظر إلى مغفرتك الهاطلة ، ولا تنظر إلى معذرتنا الباطلة ، وكما هدى الله المؤمن في الدنيا هداه في العقبى حتى دعاه بأقرب دعاء إلى الإجابة ، وأثنى عليه بأطيب ثناء عند الإنابة ، فقالوا : الحمد لله ، وقالوا : ربنا غفور اعترافا بتقصيرهم ، شكور إقرارا بوصول ما لم يخطر ببالهم إليهم ، وقالوا : ( أحلنا دار المقامة من فضله ) أي لا عمل لنا بالنسبة إلى نعم الله ، وهم قالوا : ( أخرجنا نعمل صالحا ) إغماضا في حق تعظيمه ، وإعراضا عن الاعتراف بعجزهم عن الإتيان بما يناسب عظمته ، ثم إنه تعالى بين أنه آتاهم ما يتعلق بقبول المحل من العمر الطويل وما يتعلق بالفاعل في المحل ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كفاعل الخير فيهم ومظهر السعادات .

                                                                                                                                                                                                                                            فقال تعالى : ( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ) .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن المانع إما أن يكون فيهم حيث لم يتمكنوا من النظر فيما أنزل الله ، وإما أن يكون في مرشدهم حيث لم يتل عليهم ما يرشدهم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فذوقوا فما للظالمين من نصير ) وقوله : ( فذوقوا ) إشارة إلى الدوام وهو أمر إهانة ، فما للظالمين الذين وضعوا أعمالهم وأقوالهم في غير موضعها وأتوا بالمعذرة في غير وقتها من نصير في وقت الحاجة ينصرهم ، قال بعض الحكماء : قوله : ( فما للظالمين من نصير ) وقوله : ( وما للظالمين من أنصار ) ( البقرة : 270 ) يحتمل أن يكون المراد من الظالم الجاهل جهلا مركبا ، وهو الذي يعتقد الباطل حقا في الدنيا ، ( وما له من نصير ) أي من علم ينفعه في الآخرة ، والذي يدل عليه هو أن الله تعالى سمى البرهان سلطانا ، كما قال تعالى : ( فأتونا بسلطان ) ( إبراهيم : 10 ) والسلطان أقوى ناصر إذ هو القوة أو الولاية ، وكلاهما ينصر والحق التعميم ، لأن الله لا ينصره وليس غيره نصيرا ، فما لهم من نصير أصلا ، ويمكن أن يقال : إن الله تعالى قال في آل عمران : ( وما للظالمين من أنصار ) وقال : ( فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين ) [ ص: 28 ] [الروم : 29] وقال ههنا : ( فما للظالمين من نصير ) أي هذا وقت كونهم واقعين في النار ، فقد أيس كل منهم من كثير ممن كانوا يتوقعون منهم النصرة ، ولم يبق إلا توقعهم من الله ، فقال : ( ما لكم من نصير ) أصلا ، وهناك كان الأمر محكيا في الدنيا أو في أوائل الحشر ، فنفى ما كانوا يتوقعون منهم النصرة وهم آلهتهم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور ) .

                                                                                                                                                                                                                                            تقريرا لدوامهم في العذاب ، وذلك من حيث إن الله تعالى لما قال : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [الشورى : 40] ولا يزاد عليها ، فلو قال قائل : الكافر ما كفر بالله إلا أياما معدودة ، فكان ينبغي أن لا يعذب إلى مثل تلك الأيام ، فقال تعالى : إن الله لا يخفى عليه غيب السماوات فلا يخفى عليه ما في الصدور ، وكان يعلم من الكافر أن في قلبه تمكن الكفر بحيث لو دام إلى الأبد لما أطاع الله ولا عبده .

                                                                                                                                                                                                                                            وفي قوله تعالى : ( بذات الصدور ) مسألة قد ذكرناها مرة ونعيدها أخرى ، وهي أن لقائل أن يقول : الصدور هي ذات اعتقادات وظنون ، فكيف سمى الله الاعتقادات بذات الصدور ؟ ويقرر السؤال قولهم : أرض ذات أشجار وذات جنى إذا كان فيها ذلك ، فكذلك الصدر فيه اعتقاد فهو ذو اعتقاد ، فيقال له : لما كان اعتبار الصدر بما فيه صار ما فيه كالساكن المالك حيث لا يقال : الدار ذات زيد ، ويصح أن يقال : زيد ذو دار ومال ، وإن كان هو فيها .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية